تعود الفنانة شفيقة فغير إلى أروقة العرض بعد 20 سنة من الغياب لتقدم نماذج من إبداعاتها المتنوّعة المعطّرة بأريج الأقحوان والمشكّلة بسحر التراث، لتكتمل اللوحات وتقابل الجمهور الذي يقرأها كيفما شاء ووسيلته في ذلك الإحساس، ثم الإحساس. يتضمن المعرض الذي يحمل عنوان ”الجولة الكبرى” 35 لوحة، أغلبها في الأسلوبين التجريدي والانطباعي، تمتزج فيها الألوان والأضواء ويبرز فيها الهدوء والسكينة، وتتناول أغلب اللوحات المعروضة برواق ”عائشة حداد” مواضيع عن الطبيعة والتراث والجمال والعمران والموسيقى، حاولت من خلالها الفنانة تثمين بعض القيم الجمالية الموجودة وتقديمها للجمهور كي يتمعّن فيها ويكتشف فيها هذا الجمال بتأني، بالتالي سيكتشف من خلالها الفنان الذي يعيش في أعماق كلّ بني البشر. حرصت الفنانة عبر كلّ لوحاتها على استعمال الألوان الطبيعية، فهي مثلا لا تميل كثيرا إلى المزج أو التلاعب بالألوان، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالطبيعة، كما تستعمل السيدة شفيقة بقدرات عالية وتمكّن عجيب اللون الأحادي الذي تعشق تقنياته منها استغلال تدرّجاته في اللوحة، ويتم التركيز على هذا التدرج باعتباره قيمة فنية راقية. براعة الفنانة تكمن في المزج بين الحركات والأشكال والإيقاعات في تناغم تام لا يترك مجالا لأيّ فراغ أو بتر يشوّه محتوى اللوحة، وغالبا ما ترسم الفنانة على الورق وبخلفيات من ألوان مائية، كما تلتزم أساسا بالألوان الداكنة منها البني، الأرجواني، الأسود والأصفر لتطغى هذه الألوان على المشهد أكثر من تفاصيل أخرى، فالفنانة لم تركّز على تفاصيل بعينها كي تترك للجمهور حرية اكتشاف ما يرى. من جهة أخرى، تميل الفنانة إلى الأسلوب التجريدي لأنّها تراه الأقرب للإبداع، لكشف قدرات ومواهب الفنان بدون قيد، فيه يطلق العنان للأشكال والرؤى وقوة المشهد بوسائل وإيقاعات مختلفة وغير متناهية. اللوحة باختصار، متنفّس الفنانة وتعبير واضح ومكشوف عما تفكر به، وهي فضاء يتجسّد فيه مخيال الفنانة بامتياز وتتبيّن فيه الأفكار والقناعات وأيضا المهارات التي تحسن الفنانة إخراجها فنيا، وهدفها في ذلك ليس الكمال والتحكّم في الدقائق الفنية، بل في الإثارة وإيقاظ الإحساس لدى المتفرّج العادي. من ضمن اللوحات المعروضة نجد ”مرور التاريخ”، ويستشف منها أنّ التاريخ كأنّه يمر عبر القصبة من خلال سلالم، في كل سلمة حي من أحياء القصبة، وفي لوحة ”البرج الكبير” تظهر شجرة عملاقة متفرّعة الأغصان تفوق في طولها البيوت المجاورة لها، كأن الطبيعة تتحدى العمران ”الإسمنتي” لتعلن أنّها هي الباقية ووحدها صديقة الإنسان. تظهر الطبيعة أيضا من خلال لوحات ”الأقحوان” المتفتحة في كلّ مكان والتي غالبا ما تظهر في ثوبها الأبيض الناصح المبسوط على خلفية داكنة، مع الإشارة إلى أنّ أغلب الزهور المرسومة قدّمت في إطار المدرسة الفنية الانطباعية، وتستمر الزهور في تراقصها ليلتقي الأقحوان بزهر شجر التفاح وبالورد وغيرها من هذه الكائنات الجميلة، حضر أيضا ضمن هذه المدرسة العمران (هرمونيا باستال 1 و2) لتستعمل تقنية اللون الأحادي المتدرّج الذي أعطى للتراث المعماري القديم لمسة سحرية متميّزة . يستمر عرض التراث عبر عدّة لوحات منها ”الجامع الكبير” الذي يغلب عليه اللون الأبيض وبعض البقع اللونية الفاترة التي تنعكس على الساحة المجاورة لتبدو كأوراق ورد منثورة، وفي لوحات أخرى تظهر الأطياف والشخوص المبهمة مثل لوحة ”الخطوبة” التي تتفرّع فيها الأغصان في حركة دائرية توحي بطيف امرأة وبألوان أنثوية جميلة، كذلك الحال مع الآلات الموسيقية التي تتفرّع أوتارها (الكمان) لتلتقي في تناغم وترسم طيف الآلة بألوان متدرجة أغلبها في الأزرق الهادئ. تمتد الزرقة إلى لوحة ”البحر المتوسط” ذات المساحات الزرقاء المتدرجة والبقع البيضاء المتناثرة التي تمثّل أشرعة تواجه الريح بصمود، ويظهر الهدوء في القصور العتيقة التي تواجه الجمهور بأبواب وشرفات مفتوحة لتروي له مباشرة التاريخ وقصص ”ألف ليلة وليلة”. تمتدّ اللوحات كأنّها لا تنتهي، علما أنّ أغلبها من الحجم الكبير والمتوسط تخلو من التكرار والحشو الذي يموّه معنى اللوحة، كما أنّ لكلّ لوحة رسم محوري فيها، يدور حوله موضوعها، خاصة فيما يتعلّق بالزهور والعمران إلى درجة أنّ بعض اللوحات احتوت على زهرة واحدة فقط رغم كبر حجمها. من جهتها، لاقت خلفيات اللوحات اهتماما ملحوظا من الفنانة شفيقة، حيث اعتنت بتفاصيلها وألوانها، فنجدها أحيانا عبارة عن بقع من الألوان وفي أخرى عبارة عن خطوط رفيعة وأحيانا أخرى في شكل مسطّح يشبه القذيفة لتصبح هذه الخلفية جزءا من اللوحة تعمّدت الفنانة إظهارها، وتلعب على التناغم بينها وبين الألوان المستعملة في التشكيلات المرسومة. للتذكير، فإنّ الفنانة شفيقة متخرجة من المدرسة العليا للفنون الجميلة سنة 1984 وتعمل حاليا أستاذة رسم، بدأ مشوارها الفني منذ الطفولة المبكرة وسرعان ما ارتبطت بالريشة لأنّها كانت وسيلتها للتعبير وطريقها للسعادة والراحة النفسية، وهكذا اقتنعت بضرورة نقل هذا الفن الراقي للمجتمع كي يشاطرها حبه ويكتشف من خلاله عالم الأفكار والجمال، مع الإشارة إلى أنّ المعرض تستمر فعالياته إلى غاية 14 من الشهر الجاري.