اختتم أمس بمركز التسلية العلمية "مصطفى كاتب" معرض الفنانة المتميزة فرح لادي الذي حمل تقنية الرسم على الزجاج الذي قدّمت فيها أكثر من 49 لوحة تحكي التراث بكلّ تجلياته وسحره وألوانه المقتطفة من مخيال لا ينضب عطاؤه . تستحضر فرح التراث بكلّ وهجه وسحره متتبعة التفاصيل، حتى المملٌة منها، لأجل إيصال أفكارها وقناعاتها للآخر الذي قد لا ينتبه إليها باعتبارها جزءا من ماض ولٌى، وتزدحم في هذا المعرض الألوان والأطياف والأشكال الهندسية بكلّ الأبعاد والمقاييس المتناثرة تحت الأضواء أو السابحة في الملكوت، علما أنّه قلّما توجد هذه الأشكال والألوان والأطياف منفردة فهي دوما في جماعة تتكامل في تناسق يخدم الفكرة. بعض اللوحات تكون متسلسلة تحمل عنوانا واحدا يصل عددها إلى 5 لوحات فما فوق، مثلما هو الحال مع لوحة "أمثال وحكم" التي امتدت إلى عديد اللوحات وكلّها من الحجم الكبير، أولاها تحمل أشكالا هندسية متداخلة ومتفاوتة الحجم وألوانا متناقضة منها الفاتحة ومنها الداكنة مع حضور قوي للرموز الثقافية خاصة منها الأمازيغية وتلاعب بأشكال المربعات التي تتفرّع أحيانا وتمتد في أحيان أخرى. في اللوحة الثانية من "أمثال وحكم" تطغى الخطوط الغليظة ذات الازرقاق المتدرج تنبعث منها الكلمات وكأنها نوتات موسيقية مكتوبة بخط التيفيناغ، في "أمثال وحكم 3" تبرز المثلثات والمعينات أكثر من غيرها وتتفرع في بعض الأحيان مغيّرة من اتجاهاتها وكأنّها في رحلة بحث عن الكلمات كي تتموقع بداخلها فيجد بعضها ضالته من الكلمات الأمازيغية لتركن بجانبها وكأنّها تقرأ ما تقوله. اللوحة "4" بها معيّنات مزدوجة ومتداخلة وكأنّها في حال اشتباك لتتلقى في نهاية مطافها حول دوائر ضخمة وأخرى صغيرة الحجم تحوي في جوفها كلمات أخرى مكتوب عليها بالأمازيغية بحروف من ذهب ليبدو المشهد قطعة من فلك واسع ممتد امتداد الكلمات والمعاني، وفي لوحات أخرى صوّرت الفنانة فرح المدن والأماكن التاريخية العتيقة منها مدينة جميلة الأثرية بولاية سطيف والتي تحفظ تاريخا عريقا من قرون خلت، وقد ركّزت فرح أكثر على واجهة المدينة ذات الألوان الزاهية والأشكال المزهرة والأعمدة المكسوة بالأزهار والطبيعة الممتدة قبالة المدينة دون أن تسقط البعد غير المادي في هذه الآثار منها الخامسة التي تقع في أعلى الموقع وكأنّها تحرسه من أيّ مكروه. توقّفت فرح أيضا في "ميناء تيبازة" جاعلة منه قطعة من حكايا "ألف ليلة وليلة"، حيث يظهر البحر ممزوجا باللؤلؤ الأزرق تشقه خيوط الذهب وكأنّها المجاديف ويرقد فيه بسلام حوت كبير على امتداد هذا البحر الهادئ يحمل في زعانفه أشكالا وألوانا في منتهى التناسق مثلما يحمل البحر القوارب الصغيرة الجميلة وكأنّها قوارب من ورق، أمّا اليابسة فاجتمعت فيها ألوان الأنثى من وردي وبنفسجي وأحمر بكلّ التدرّجات تخفي معالم الجواري الحسان اللواتي يظهرن ويختفين تماما كما تفعل عرائس البحر فيما تبقى امرأة تقف في هالتها المشعٌة ممدودة اليدين تحرس الميناء من الغرباء المشكوك في أمرهم. بعيدا عن الساحل يتراءى التاسيلي مهد الإنسانية فوق هضبة كأنّها كومة من الكنوز تتهاطل منها الرسومات الجدارية تجري هنا وهناك بجانب الحيوانات ووسائل الصيد البدائية وكلّها بألوان الصحراء الترابية من بني وأسمر فاتح وأصفر. في الصحراء دائما، تتجلى تندوف المدينة التي لم تحترم فيها الفنانة مقاييس العمران البشري كي تبدو حالمة واستثنائية بين مدن الصحراء، فنجد مثلا نخيلها في سمائها ونجد الكواكب والنجوم أدنى وتكسو فيها الحروف الأمازيغية جدران القصور القديمة التي يلفها وحي الغروب فتزداد سحرا وتميّزا، وتعود الفنانة إلى مدن الشمال لترصد معالمها منها "مقام الشهيد" الذي تجعله امتدادا لمحيطه الطبيعي الأخضر يمتد به المسار حتى ساحل البحر محافظا في ذلك على علمه الوطني وخامسته الذين يمثلان الهوية الوطنية. معالم أخرى في المعرض منها "حديقة التجارب" التي حوُل مركزها إلى طيف سيدة تجلس في هدوء بالحديقة البريطانية، أمّا "السيدة الإفريقية" فتبرز شموخ الكنيسة المتربعة على أعالي العاصمة ملامسة السماء قرب الهلال هو معنى واضح يبرز قيم التسامح والجمال. «القلب المقدس" لا يخرج عن هذه القيم التي تحفظها سيدة تراقب هذا الشارع وتحرصه بأمان وكأنّها جزء منه علما أن جسمها يحمل نفس معالم الشارع، وفي لوحات أخرى كثيرة تبرز الزخرفة الإسلامية المرتبطة أساسا عند هذه الفنانة باللون الذهبي كلون سيد إضافة إلى الأبيض والفضي، أمّا الألوان بكلّ تجلياتها فتظهر في تقنية التزهير التي تلف الأقوال والحكم والأسماء المكتوبة بالخط العربي منها لوحتان احتوتا في أطرافهما أسماء تكاد تسقط من الذاكرة الجزائرية منها مثلا "الوناس، العيد، عمار، مزيان، زواوي" وغيرها. وتنوّعت الزخرفة الإسلامية لتمتد إلى أشكال مختلفة تأخذ أحيانا أشكال فراشات كبيرة تسدّ مساحة اللوحة وأحيانا تكون الزخرفة متعايشة مع المدرسة الفنية التجريدية تتجسّد في التموّجات نحو اللانهاية بألوان الغروب الهادئ. استطاعت الفنانة أيضا توظيف فن المنمنمات لإبراز التراث الأمازيغي الأصيل وتطعيمه ببعض القيم الفنية والمناظر الطبيعية الخلاٌبة، كما أعادت الروح لبعض المناطق المنتشرة هنا وهناك عبر أرجاء الوطن كميناء سكيكدة الذي يجتمع فيه البر والبحر ليصبحا واحدا ليعطيا لسفينة الميناء أولوية الحضور في المشهد العام، كذلك الحال بالنسبة لميناء سيدي فرج الذي يظهر فيه العمران والبحر بمقدار واحد فيما تجتمع الطبيعة كلها من شجر وحجر وشمس وحوت البحر أمام "قبر الرومية" وكأنّها تزور هذه الأميرة التي فضّلت أن تدفن في أرض الجزائر. كعادتها التزمت هذه الفنانة بأسلوبها المرتبط بتقنية التنقيط، حيث تخط معالم ما ترسم بالنقاط أكثر من الخطوط، ناهيك عن استعمال الخطوط المذهبة كنوع من تطعيم اللوحة ويكاد الذهبي لا يغيب عن المعرض الذي رسمت كلّ لوحاته على الزجاج، زد على ذلك حرصها على إحياء تراثنا الوطني العتيق الممتد من الحدود إلى الحدود.