ارتبطت تجربة الكتابة لدى المراة الجزائرية بالقضية والنضال بوصفها أداة أساسية استغلتها المراة في معركة التحرر الوطني وفي تحقيق ذاتها اجتماعيا وإبداعيا.. لذا فالحديث عن هذه التجربة أومحاولة دراستها لا يمكن ان يتم بمعزل عن طبيعة علاقة المرأة الجزائرية بتواجدها المجتمعي بمختلف اشكال هذا التواجد، ذلك ما جعل كتابتها ترتبط ارتباطا وثيقا بالمواطنة والحق في التعبير الذاتي الذي هو أحد أشكال الحرية وشرط من شروطها، ولأن علاقة الحرية بالمراة الجزائرية في المجتمع الجزائري، رغم نضالها الطويل، مازالت علاقة غير واضحة المعالم، تتجاذبها أطراف متعددة وظروف متنوعة يعتبر الحديث عنها حديثا مشوبا بكثير من الهلامية والمغالطة وسط جدلية عقائدية عويصة تؤرجح المرأة بين دورها التقليدي ودورها الريادي.. ضمن هذه الرؤية المجتمعية التي لم يفصل المجتمع بعد فيها بل وفي كثير من خياراته وقضاياه الاخرى.. يبقى وضع المرأة في الجزائر أسير التناقضات فهي من جهة مناضلة كفئة ورائدة إبان الثورة التحريرية و"العشرية السوداء" الأزمة الدموية في التسعينات، يقع عليها حمل المواجهة والتصدي، وهي من جهة أخرى سلبية راضية بوضعها الإجتماعي والأعراف والتقاليد التي تكرس دورها كمخلوق من الدرجة الثانية سواء من حيث مكانتها كمواطنة، أو من حيث وجودها ككيان قانوني يعترف بها كمقدمة للقاطرة في أي نهضة اجتماعية محتملة، ولكنه يحدد لها ألقواعد التي تسحبها.. هذا الوضع الذي يتغير بتغير التوجهات السياسية، ويتحرك مع تحرك طبيعة النقاش السياسي والثقافي الذي عرفته الجزائر على امتداد مراحلها التاريخية وتجاذبات نخبها الثقافية، ما زالت تعرفه إلى حد الآن، بل إنه هو من يحدد دورها ثم مشاركتها في مسيرة التنمية الوطنية وخاصة فيما كان يسمي في مطلع القرن الماضي بمعركة البناء والتشييد.. إن عودة المرأة بعد الإستقلال إلى أسوار البيت لتعاني القهر والخضوع مدة سنوات طويلة، ما تزال آثارها ماثلة الى اليوم في ميادن عدة، كانت أرضية خصبة لنمو من حملوا راية إرجاعها إلى البيت باعتبارها سبب بطالة الرجال ومكمن انحراف وسقوط المجتمع. من هنا جاء التعبير النسوي في الرواية وفي القصة وفي حقول إبداعية كثيرة أخرى، كتاريخ بل وكتعبيرعن هذا الغم وهذا الإقصاء.. فاستعملت المرأة ذكاءها في استخدام الكتابة في البداية كوسيلة لإثبات الوجود وليس كترف فكري أو معرفي.. فكانت تعبيرا عن الذات بوصفها إحدى أهم الوسائل التي استغلها الرجال في السيطرة على القكر والمعتقدات.. خاصة وأن الكتابة كثيرا ما كانت وسيلة للرقي الاجتماعي والتحصيل المعرفي ثم الوصول من خلالها إلى مراكز القرار.. كان الإقتراب من هذه الأداة"الكتابة"، محرم على المرأة كما تكشف ذلك عديد التجارب النسوية الجزائرية خاصة تلك المكتوبة باللغة العربية، حيث يضاف المقدس إلى قائمة التهم الكثيرة لتكتمل الحكاية..؟ وفي هذا الصدد يمكننا كشف تجربة الشاعرة " صفية كتو" كمحنة خاصة في تاريخ المرأة الجزائرية الحديث، التي انتحرت احتجاجا على القهر الذي مورس ضدها والذي وصفته الكاتبة "جميلة زنير" بالرسالة المأساوية، فقد كان احتجاجا قاسي اللهجة ضد القهر والقمع" والضغط على الأنوثة المهدورة، وهو نفس التهميش والنسيان أيضا الذي مورس ضد عميدة الكاتبات الجزائريات الراحلة "زليخة السعودي " التي رحلت في الثلاثينات من عمرها دون ان تتاح لها فرصة طبع أعمالها تاركة خلفها إرثا أدبيا راقيا بعضه ما يزال حبيس أدراج بعض الذكور في الجزائر، الذكور الذين مارسو نسيانا مبرمجا ضد الكاتبة.. وهو رحيل مشابه لرحيل "يمينة مشقرا" المأساوي وهي التي شابه مصيرها مصير الكاتبة اللبنانية "مي زيادة"، مخلفة وراءها واحدا من أهم النصوص الأدبية في الكتابة النسوية الجزائرية " المغارة المتفجرة " باللغة الفرنسية، والتي أعاد المسرح الجزائري بعثها منذ سنة في مسرحية جميلة.
"المفرنسات" و"المعربات" المقدس والمدنس ؟ كان التاريخ الإبداعي النسائي في الجزائر تاريخ القول النسوي والإحتجاج ضد كل أشكال القمع والقهر حتى وإن كتبت أغلب الجزائريات باسماء مستعارة، فهاهي "آسيا جبار" التي انطلقت من مدينة شرشال الصغيرة، تصل الى صرح الأكاديمية الفرنسية بباريس وتدخل حضرة المرشحين لجائزة "نوبل" الأدبية، والتي لم تكن لتصل إلى ما وصلت اليه لو لم تتخلى عن اسمها الحقيقي " فاطمة الزهراء املحاين " لتختار اسما بعيدا عن الاسم العائلي طالما أن اسم المرأة المبدعة يتعارض وشرف العائلة المصون.. وبهذا تجاوزت آسيا جبار تاريخ صدمتها الشخصية وخوفها من العائلة لتعانق تاريخ بنات بلدها اللواتي كتبت عنهن في العديد من مؤلفاتهاالتي أبرزها" العطش" وقد عادت جبار بعد هذا العمر من النضال العلمي والأكاديمي لتسرد تاريخ تجربتها في رواية مميزة صدرت في باريس العام الماضي تحت عنوان "لا مكان لي في بيت أبي".. روت فيه الروائية "خوفها من أبيها ومن رجال العائلة مخافة أن يطلعوا على تجاربها العاطفية حتى لو كانت هذه التجارب من وحي المراهقة. وليس بعيدا عن آسيا جبار، حيث تقف الكاتبة "فضيلة الفاروق" في معركة الإسم لتعلن عن هويتها المجروحة من خلال كتاباتها العديدة مثل "ميزاج مراهقة " و" اكتشاف الشهوة " و" لحظة لاختلاس الحب". تقول فضيلة الفاروق "اضطررت إلى أن أتخذ اسما مستعارا حتى لا أحمل عائلتي مسئولية ما أكتب وحتى أتحمل مسئولياتي كاملة تجاه ما أكتب"..؟ هكذا تعترف فضيلة الفاروق متخذة شكلا من الإلتزام الواعي تجاه قضيتها مع ذاتها ونصوصها منذ أن قررت أن تهاجر لتعود من خارج أسوار البلد اسما متوجا بكثير من الإعتراف والمهابة. وقبلها كانت تشمخ "أحلام مستغانمي" بفضل ثلاثيتها المعروفة، لتحجز اسما أصبح له اليوم كثير من الحضور النقدي والإبداعي بفضل ما حققتته في الوطن العربي إذ يقول عنها "عبد الله الغذامي" في كتابه المراة واللغة " إنها أول عربية تعيد للغة أنوثتها بعد ان كانت مذكرة.. ". ولكن إن كانت هذه الأسماء قد نجحت بفضل الهجرة وما يوفره المحيط الخارجي من الحرية والفرص التي ساعدت هذه الأسماء على الحسم في كثير من خياراتها، فإن هناك أسماء أخرى لا تقل عنها شأنا ما زالت تعاني قهر الداخل المثقل بالتهميش، الذي يتعامل مع المرأة من منطلق الشرف الذي يرتبط بالإسم وبالعائلة خارج إطار الإبداع بوصفه عيبا اجتماعيا كبيرا على المرأة تجنبه وتقول في ذلك جميلة زنير، في حديث عن اقتحامها مجال الكتابة ".. كنت أكتب من غير أن يطلع أحد على كتاباتي أو يشجعني على مواصلة الكتابة، فكنت أول فتاة في" جيجل" تتجرأ على كسر أعراف القبيلة وتعلن اسمها عبر الإذاعة في أواخر السيتينات وبداية سبعينات القرن الماضي..". في نفس الإتجاه تذهب "زينب الاعوج" في فضح المجتمع الذي تصفه بالمتخلف ".. مجتمع مثقل بالتقاليد البالية بإرث طويل من الظلم والفكر الإقطاعي، إنه مجتمع يسير على جثث النساء البريئات..". تقف التجربة الإبداعية النسوية في الجزائر على دعامتين واحدة مفرنسة وأخرى معربة، والفرق بين التجربتين يتجلى ليس فقط في طبيعة الإلتزام الذي تبديه طائفة المفرنسات تجاه قضاياهن على حساب طائفة المعربات، لكن أيضا في طريقة الطرح ومعالجة القصص والجرأة التي تبديها النصوص المفرنسة على حساب نظيرتها المعربة.. وهنا ساتحدث عن نموذجين على سبيل المثال لا الحصر، مع الإشارة إلى أن الأمور تبقى نسبية في ظل قلة او غياب الدراسة النقدية التي تتناول الموضوع.. فالمقارنة البسيطة بين نصوص أحلام مستغانمي برغم الهالة الإعلامية والحضور الأدبي الكبير لهاعربيا ودوليا، تبقي نصوصها بعيدة عن الجرأة التي تدعيها أحلام في خطابتها وحوارتها الإعلامية، فبطلة ذاكرة الجسد مثلا استسلمت وانهزمت أمام المصير الإجتماعي الذي أعد لها مسبقا بزواجها من رجل عسكري نصف أمي ويكبرها بسنوات وهي خريجة المعاهد والمدارس الغربية، بينما تبدو "مليكة مقدم" ككاتبة مفرنسة، جريئة بكل مقاييس الصراحة الأدبية والواقعية في كتاباتها مثل " الرجال الذين يمشون"، "رجالي" و"الممنوعة ". ربما يعود هذا لطبيعة تكوين كلا الكاتبتين ومحيط التكوين وللتأثير الاديولوجي، وأيضا تأثير المحيط الاسري.. لكن التحفظ والتستر وراء الأسماء الساردة، تشكل، إلى حد ما، ميزة في الكتابة باللغة العربية عند الجزائريات أمثال "إنعام بيوض"، "ياسمينة صالح"، "شهرزاد عبير" ، "حكيمة صبايحي" وأخريات، وذلك بسبب ما يروج عن العربية كونها لغة المقدس ولا يحق لأصحابها ما يحق للمفرنسات.. فقد أثيرت في العام الماضي معركة ثقافية حادة بسبب منع كتاب رجالي لمليكة مقدم من الترجمة في إطار مشروع الكتاب في تظاهرة الجزائرعاصمة الثقافية العربية سنة 2007، رغم كون الكتاب متوفر في السوق الجزائرية وقرأه الناس باللغة الفرنسية وسبقت ترجمته إلى العربية من طرف المغاربة.
إرث شهرزاد من الحكي إلى السرد تأنيث المذكر ربما تكتسي هذه النظرة المزدوجة في خلفية النص النسوي في الجزائر بين شقيه المعرب والمفرنس، كيفية تعامل المرأة مع إرث شهرزاد منذ ألف ليلة وليلة، من منطق أن اللغة العربية هي لغة المقدس، لغة القران لا يجوز ابتذالها وإهدارها.. أو من كونها لغة ارتبطت نسقيا بالفحولة أوالرجولة، لأن اللغة العربية تاريخيا هي لغة مليئة بالإقصاء والعنف ضد النساء وأظن أننا لسنا بحاجة الى دراسة لغوية لنستنتج أنماط الإقصاء والتهميش الممارس ضد كل ما هو "مؤنث" لغويا، فمنذ ألف ليلة وليلة ظل السرد العربي يتعامل مع كل ما هو ثقافة بعقلية منحطة، وخاصةعندما تضاف إليه تاء التأنيث ذلك أن ألف ليلة وليلة، التي قال الباحثون أنها حرفت القول النسوي، وأشاعت ثقافة الشعر والموسيقى والغناء لتبقى مقرونة بالجواري والمحضيات في القصور.. بحيث لا يمكن لحرة أن تتعاطى مع هذا النوع من الإبداع، وظلت الكتابة بوصفها فعلا ثقافياعند العرب، خروجا عن تقاليد العفة والحشمة والذوق العام، وخاصة ما إذا ارتبطت بالبوح النسوى.. ولأن القهر لا يمكنه أن ينتج الا الإنفجار فقد ظهر في الساحة العربية ومنها الجزائر، نوع من الأدب المعرف "بالحريم الثقافي"، أي كتابة الجسد وكتابة المؤنث، الذي يحيل مباشرة إلى الوجود الجنسي للمرأة على حساب الكتابة النسوية التي تحيل إلى الوجود الإجتماعي للمراة بمختلف قضاياه وصوره وتشعباته.. فظلت الكتابة كما يقول "عبد الله الغذامي" رجلا طالما ظل اللفظ فحل، وصار الحكي امراة، طالما ارتبط بالمعنى والمعنى بكر بحاجة دائما الى لفظة لافتضاضه.. لهذا نجد التجارب النسوية وخاصة المعربة منها، تعتمد الحكي بدل السرد الذي هو أقدر على كشف التعدد في الاصوات والإفصاح عن معالم الإختلاف. دائما واستنداءا الى تراث ألف ليلة وليلة، نجد الشخصيات النسوية في الروايات والقصص العربي، تتراوح وتتارجح بين الإحتجاج التقليدي والخضوع للواقع طالما أن أدوار النساء تتارجح بين الأم والجارية، كما نجدها في ألف ليلية وليلة تماما.. وهذه الأدوار إنما هي تاكيد على أن المجتمع العربي، لا يعتبر ما تحققه المرأة قبل الزواج نجاحا مهما كان نوع العمل الذي تقدمه، ولا يبدا نجاح المرأة إلا يوم تصير زوجة.. لذلك جاء تسلح شهرزاد في ألف ليلة وليلة بالحكي من أجل أن تتخلص من الموت الذي شهره "شهريار" عليها في كل ليلة، شبيها بتسلح المرأة الكاتبة اليوم بالسرد.. فالكتابة في مواجهة الموت الرمزي إجتماعيا.. فكل النساء اليوم هن شهرزاد التي ترغب في التخلص والإنعتاق من شهريار آخر حتى لو كان بشكل نقدي أو حكي تاريخي، وهكذا فاي امراة تدخل حرم الكتابة المذكرة رمزيا، يفترض فيها أن تسترجل.. ولما كانت تريد أن تتخلص من الصور التقليدية للسرد والحكي وتقدم شيئا ذا قيمة توصف بكونها مسترجلة، أو أنه عليها أن تدخل دائرة الحريم الثقافي، وبقول مبتذل، إنه يقدم المرأة بنظرة رجالية لا تتخذ من الكتابة وسيلة للتحرر من العبودية، بل وسيلة من أجل بلوغ غاية واحدة هي إرضاء الرجل والوصول إلى عوالمه من خلال تشبيع النصوص الأدبية بالشبق المهترئ له والغربة البائسة، فبدون هذا النوع من الكتابات المنتشر بقوة الآن، والذي يعتمد على تدعيم النقاد المنصوص وترويج الإعلام المدروس، مما يجعل من النص إبداعا خلاقا.. لذا فعادة ما تلتجئ المرأة في كتاباتها لتقمص صورة ولسان الرجل في قول ذاتها.. فهذه أحلام مستغانمي تعترف في حوار لمجلة "هي" عدد 24 من جويلية عام 1994 في صفحة 30، 32:".. وجدت التحدث بلسان الرجل أسهل علي في السرد والكتابة مما ساعدنى على قول ما عجزت عن قوله كأنثى.." . مما يعني أن اللغة العربية كنسق من القيم والتقاليد لا تتيح للمرأة الروائية أو القاصة ما تتيحه اللغة الفرنسية خاصة إذا تعلق الأمر بالتعبير عن قضايا خارج دائرة اهتمام الرجل بالمرأة وعلاقتها به فالكتابة حول الحب والعشق والهيام ليست سلسة.. فالشخصيات النسوية في روايات مستغانمي أو إنعام بيوض أو ياسمينة صالح، هي شخصيات مفصلة على مقاس الرجل، فالبطلة جميلة وطنية مثقفة متحدية وحولها تدور مكائد النساء وعشق الرجال.. فتكبر أو تسموالشخصيات لتصير مع ياسمينة صالح مرادفا للقضية والتاريخ، ومرادفا للوطن مع مستغانمي، أو مرادفا للبحث عن الوجود الذاتي والوطني لدى إنعام بيوض .