تتعدد الآراء والنظريات بشأن مفهوم "الالتزام" ودلالاته في النص الأدبي، من ناقد الى ناقد، ومن أديب الى آخر، بحسب الانتماء الفكري، أو التوجه الايديولوجي لحامل القلم.. بقلم: عمر بوشموخة ومن دون التوغل في "نظريات الالتزام" في الأدب، والتي خاض فيها أكثر من مفكر وناقد أديب، من أمثال "سارتر" و "لوكاتش" و "توماس مان" في الآداب الأجنبية، ومن أمثال " محمد مندور" و "عزالدين اسماعيل" و " محمد مصايف" في الأدب العربي، وغيرهم.. نكتفي بما يذهب إليه الرأي الغالب، من أن الأدب الملتزم، هو "كل أدب يقف الى جانب الإنسان لا فردا منعزلا"، وإنما ممثلا للإنسانية كلها، في تاريخها الطويل في كل زمان ومكان ليجسم صراعه الرهيب ضد الاستغلال والعبودية، للوصول الى الحرية الكاملة الشاملة في ظل مجتمع عادل... "(1) هل كان لابد من هذه الافتتاحية لمعرفة ملامح الالتزام الأدبي في النص الذي تنجزه المرأة المبدعة الجزائرية وأعني تحديدا في تجربتها الفنية مع القصة القصيرة وفي الرواية؟!... إن هذا التساؤل يستمد شرعيته من كون النص الأدبي للقاصة والروائية الجزائرية، منذ صنع وجوده وسجل حضوره في الساحة الأدبية والثقافية، حاملا لملامح الالتزام من جذوره، إزاء الوطن بأبعاده النضالية والاجتماعية والاصلاحية، انطلاقا من إحساسها القوي بالانتماء للأرض التي أنجبتها، ومن ايمانها العميق بأن القلم الذي تحمله بين أناملها، لن يكون له معنى اذا لم يكن ناطقا بمعاني الثورة والتمرد والتحرر، ربما لاحساس القاصة والروائية الجزائرية، بأن المرأة ليست بأقل من شقيقها الرجل من المعاناة، بل إنها تدرك أكثر إن المرأة الجزائرية إبان مرحلة الكفاح المسلح، واجهت الفقر والتشرد والترمل، الامر الذي يجعل من المبدعة الجزائرية، أكثر تعبيرا عن واقع المرأة الجزائرية، وتصوير معاناتها، ومشاركتها في الواجب المقدس، واستجابتها لنداء الوطن، مثلما يتضح ذلك في "صور من البطولة" لشيخ الادباء والكتاب الجزائريين "محمد الصالح الصديق"ّ في قصة تحمل عنوان "نسيمة تستشهد في المعركة" حين ترد بطلة القصة على طلب الخطيب لاستكمال إجراءات الزواج، فتمتنع الفتاة قاتلة: ".. إن نداء وطني قد سبق نداءك، وأن تلبيته أوجب علي من تلبية ندائك، ولست أدري ما متعة الحياة الزوجية والوطن العزيز يصبح في بحر الدماء والدموع. بالمعنى الذي يفيد، أن القاصة الجزائرية، لم تختر موقعها في صف الالتزام بالثورة والوطن، انسياقا مع التيار بقدر ما كان التزامها نابعا من إحساسها بالواجب الوطني والأخلاقي، وإيمانا منها بمسؤولية القلم الذي يمثل سلاحا يشبه المعنى الذي يقصده "سارتر" في كتابه "ما الأدب".. حيث يقول: "إذا تكلم الكاتب فإنما يصوب قذائفه في مكتنه الصمت، ولكنه إذا اختار أن يصوب فيجب أن يكون له تصويب رجل يرمي إلى أهداف لا تصويب طفل على سبيل الصدفة مغمض العينين ومن دون غرض سوى السرور بسماع الدويّ. فإن كان التزام القاصة الجزائرية بالقضية الوطنية، فلأنها الأكثر التصاقا بالأرض وبالتربة التي تنتمي إليها من شقيقها الرجل، بحكم جذوة العاطفة المتأجحة التي تختص بها المرأة كأنثى.. وإن كان التزامها بالوضعية الاجتماعية، فلأنها خير من يغمس ريشته في هموم المجتمع وانشغالات الناس، لإحساسها الفطري بالمعاناة والآلام التي من حولها. وتأسيسا على ذلك، فإن الوعي بالالتزام الذي نلمحه في الكتابات القصصية والروائية، لدى الجيل الاول خاصة، لا نكاد ونجد له موقعا غير التموقع في الخندق النضالي ببعديه الوطني والاجتماعي، بحيث إن من يقرأ قصص الأديبة " زهور ونيسي " يقف على مدى إحساس المبدعة الجزائرية بالظلم والثورة على الوضع المزري الذي يفرضه واقع الاحتلال والاستعمار. ففي مجموعتها " على الشاطئ الآخر" تفصح القاصة عن التزامها بقضية المرأة الجزائرية، وعن الدور النضالي الذي ينتظرها للثورة على الظلم والقهر، وكل أشكال الاضطهاد الممارس على المرأة، في محاولة لإبراز دورها الذي لا ينبغي أن يكون أقل حظا وأهمية من دور الرجل، بالرغم من مناظر البؤس، والترمل والاغتيالات التي تتعرض لها أو تقع امام بصرها من قبل بطش المستعمر الفرنسي، حيث لم يمنعها هذا المنظر المؤلم من أن تتحمل المرأة الجزائرية مسؤوليتها للذود عن حرمة الوطن من خلال صون كرامتها، وإبداء شجاعتها في مقاومتها وتصديها لمختلف أشكال التعسف، بل تذهب بعيدا حين تصور لنا القاصة دور المرأة الام في إغراء ابنها المجاهد في الفوز بنعيم الجنة عن طريق الشهادة استجابة للأية الكريمة: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"( من صورة آل عمران). كما أن الكاتبة " زهور ونيسي" لا ينصب اهتمامها فقط على المرأة وما عانته من ظلم وقهر الاحتلال، بل نراها تصور في قصصها معاناة الرجل الجزائري في "الشاطىء الآخر" خارج الوطن، فتنتقل صورة للقارىء ما يعانيه المهاجر من وضع بائس في سبيل الحصول على لقمة العيش في بلاد الغربة: " أحياء قذرة، بيوت شبيهة بحجر فأر، جدران سوداء أجواء مظلمة خانقة، كل هذه العوالم تجثم على الصدر وتزرع في النفس الضيق والغضب.." بحيث أن الناقد الدارس لأدب "زهور ونيسي" يجزم أن الكاتبة لا تفصل بين التزامها النضالي إزاء القضية الوطنية، أو التزامها النضالي إزاء القضايا الاجتماعية، والهموم اليومية للمواطن الجزائري، حتى وإن كانت تلك الهموم على أرض أخرى غير أرض الوطن!! ولا شك أن المتتبع لمسار "زهور ونيسي" الأدبي، سوف يجد انسجاما كاملا بين الولادة والنشأة والتكوين للأديبة الجزائرية وروح المسؤولية النضالية، والالزام الأدبي والأخلاقي، في امكان القارىء أن يتلمس ذلك في معظم قصصها وكتاباتها الابداعية، وماتزال " زهور ونيسي" وفية لمسارها الإبداعي ووعيها بالتزامها الأدبي، وهذا ما جعل كتاباتها مصدرا وإلهاما لبعض المبدعات من الجيل الجديد، من كاتبات القصة القصيرة والرواية، ربما كان هذا منشآه أساس الواقع الثقافي الجزائري، الذي يعكس مدى ترابط الأجيال الأدبية وتأثير جيل الكبار (القديم) في الجيل الجديد!! ويتساوى في ذلك النص المكتوب باللغة العربية، والنص المكتوب باللغة الفرنسية (تبعا للواقع اللغوي في الجزائر)، ففي هذا الصدد فاجأتني رواية بالفرنسية بعنوان Faiza le Defi تنتمي الى هذا الجيل الجديد، وهي الروائية "نسيمة طرفاية" من مدينة عنابة، حيث اكتشفت مدى روح التحدي والوعي بالذات للمرأة بطلة القصة "فائزة" في مقاومتها لكل الاعراف والتقاليد البالية التي تفرضها ثقافة المجتمع المؤسس على عدم الاعتراف بحق الوجود للنصف الآخر. إنه التحدي الكبير حقا، حيث تأخذ الكتابة شكل الثورة والتمرد على واقع مؤلم، تحكمه تقاليد بالية جامدة تبلغ حد التحجر والتزمت... واقع تدفع ثمنه المرأة في صمت وسكون، ونسيان مطلق مطبق، ضمن ثقافة آحادية لا تعترف الا بثقافة ذكورية سائدة مسيطرة جامحة،، والتحدي في هذه الرواية، يأخذ شكلا أكبر حيث يتعلق الأمر ببطولة أنثوية مزدوجة: بطلة رواية "فائزة التحدي" كاتبة الرواية "نسيمة طرفاية" حيث يلاحظ اختبار الكاتبة لعنوان الرواية في إصرار واضح على شق طريق التحدي، بصورة مباشرة ، ما يعني أن الكاتبة أعلنت منذ البداية التزامها بقضية "وضع المرأة" في مجتمع لا يعترف بحقوقها الاجتماعية، ورغم أن النص مكتوب بلغة "فولتير"، فإن روحه تنضح بالروح الجزائرية، ثقافة وانتماء، وهذا دأب الكتابة الأدبية في الجزائر،ذات التعبير الفرنسي نلحظه لدى الروائية "آسيا جبار" خاصة في روايتها " أطفال العالم الجديد" و "القبرات البريئة" أو الساذجة ، حيث نجد تزاوجا واضحا بين الالتزامين: الوطني والاجتماعي ، بما يفيد أن القاصة او الروائية الجزائرية، التي تكتب بلغة غير لغتها الأم لا ترى في اللغة الأجنبية المعبر بها، ليست سوى أداة تعبير، وليست لغة استعمارية كما يرى البعض، لأن الفكرة والموضوع، غاية الكاتب والمبدع المفرنس، وتتأكد هذه الفكرة بصورة ملموسة،بالنظر إلى الدور الإيجابي الخطير الذي عبرت عنه النصوص القصصية والروائية إبان مرحلة الاستعمار والاحتلال الفرنسي، بحيث كان لتلك النصوص الأدبية المعبر بها بلغة المحتل، دور واضح في فضح صور التجهيل والاحتقار والتجويع ضد أبناء الوطن، أي بالمعنى الذي تحولت فيه لغة العدو، إلى سلاح في يد الكاتب (ة) الجزائري، مصوب إلى صدر العدو ذاته، فما كانت اللغة الفرنسية عائقا أمام حامل القلم، للاحساس بالقهر والاضطهاد، والتعبير عن ذلك من خلال أشكال التعبير الأدبية إبان مرحلة ما قبل الاستقلال الوطني، خاصة ما يتعلق بارتباط الجزائريين بأرضهم ودينهم وثقافتهم وخصوصيتهم. وفي الكتابات الإبداعية النسوية الجديدة، لا نجد انفصالا بين هذا الجيل الجديد، والجيل القديم والمخضرم، من حيث الالتزام والوعي بقضايا الوطن والمرأة والمجتمع، أو الموضوعات المتعلقة بالتمرد الانقلاب على القيم البائدة، التي تميز ثقافة المجتمع الذكوري المهيمن، بحيث نجد في هذا الجيل الجديد من كتابات القصة القصيرة، ما يرتبط مثلا بجيل "جميلة زنير" و "زليخة سعودي"، ونخص بالذكر جيل "زهور ونيسي" من حيث الالتزام الأدبي، مع الاختلاف في التنوع وفي اللغة، والأداء الفني، ويمكن أن نذكر أسماء مثل: القاصة "جميلة طلباوي" والقاصة "أم البنين" والقاصة "أم سارة" و "عقلية رابحي" والقاصة "زهرة أنيس" فعلى الرغم من إرتباط القاصة الجديدة براهن عصرها وقضايا مجتمعها بأشكاله المعقدة، فإنها من ناحية التزامها، لا تمثل قطيعة مع الجيل الذي سبقها... فالقاصة الجزائرية "زهرة أنيس" التي تنشر بإستمرار قصصها على مختلف الصفحات الأدبية، خاصة "المجاهد الأسبوعي" تمثل وفاء وامتداد للجيل السابق من جانب الارتباط بالأرض والوطن والقيم النضالية الثابتة، التي فصل فيها دم الثورة والشهداء على الرغم من أنها تسعى دائما في نصوصها، أن تكون صورة صادقة للأفكار التي تؤمن بها، كونها ابنة منطقة ثورية حاضنة للجهاد ضد المحتل الفرنسي.. وهي بقدر إيمانها بالتواصل مع الجيل الأدبي السابق من حيث الالتزام في كتابة القصة القصيرة، بقدر ما ترى أن الكتابة الأدبية والفنية، لا بد أن تحمل بصمات وخصوصيات حامل (ة) القلم نفسه.. كما نجد روح التمرد تبلغ أقصى مداها، في كتابات "فضيلة الفاروق" خاصة في روايتها "اكتشاف الرغبة" التي تعد من أقوى الكتابات الروائية جرأة في تكسير طابو "الجنس" في الأدب النسوي الحديث، بالمعنى الذي نرى الروائية والقاصة "فضيلة الفاروق" قد تجاوزت الأدبية "أحلام مستغانمي" التي كانت سباقة في طرق الكتابة "المحظورة" عندما أصدرت في سنوات السبعينات من القرن المنصرم مجموعتها الشعرية التي وضعت لها عنوانا مثيرا للانتباه "الكتابة في لحظة عري" وهذا قبل أن تتألق روائيا في "ذاكرة الجسد" و"عابر سرير" و "فوضى الحواس" وبالتالي فإن روح الثورة والتمرد على السائد من القيم البالية، تعد من أبرز ملامح الالتزام عند جزء من كاتبات القصة والرواية في الجزائر، وليس من شك فإن الملامح الجماعية في النص الروائي، يحظى بالعناية الكبيرة، من لدن القاصة الجزائرية من الجيل الجديد، حتى وهي تخوض الكتابة في موضوعات تبدو محظورة في واقع المجتمع الذي تنتسب إليه... نلمس بصمات ذلك في نصوص "الزهرة والسكين" للقاصة "زهرة بوسكين" وفي نصوص القاصة "زكية علال" خاصة في قصتها "قبر مفتوح" وفي غيرها من النصوص القصصية التي تتميز بحدتها وجرأتها الفكرية والطرح الموضوعي، ومحاولة بلوغها أقصى المعنى المنشود، من خلال غلغلة سكين الكتابة في الجرح الاجتماعي والوجع الواقعي، حتى يخال القارئ أن "زكية علال" اختارت أن تنحاز لمقولة "جبران خليل جيبران" "ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب" وبالتأكيد فإن ما يميز الكتابة القصصية النسوية في الجزائر، سواء ما كان معبر عنها باللغة العربية أو بالفرنسية، التزامها الواضح بالخط الوطني النضالي إبان مرحلة الثورة والاحتلال، والتزامها بخط البناء والتشييد، وبالتحول الاجتماعي في الجزائرالجديدة المستقلة، بحيث يلحظ أن مواكبة القصة النسوية الجزائرية، لا تفق بمعزل عن التطورات الجارية في مجتمع يسعى إلى مواكبة الحداثة بالموازاة مع ما يستوجبه العقل من المحافظة على ما يتميز به المجتمع الجزائري من خصوصيات يصعب اختراقها بجرة قلم من مبدعة وقاصة مهما بلغت حجما كبيرا من الإبداع الفكري والأدبي، انطلاقا من الإحساس العميق بروح المسؤولية والوعي بالذات، والوفاء للانتماء لوطن يفرض حضوره على حامل (ة) القلم، حتى وإن اخترق طابو الكتابة ووقع في "المحظور" الاجتماعي... لأن نقطة الانطلاق كانت بالأساس الالتزام الأدبي القائم على وعي المرأة الجزائرية المبدعة الذي لن يكون نشازا عن النص الأدبي الجزائري بوجه عام..