ما تجود به الحكومة من زيادات متوالية في الأجور تستنزفه الزيادات المتوالية في الأسعار التي لا تستند إلى أي منطق , حتى أن أكثر الجهات استفادة من رفع سقف الأجور هم أباطرة السوق و أمراء دكاكين الاستيراد و الاستيراد , الذين قد يتحولون مع الزمن إلى قوى تحرض الغلابة من الطبقة الوسطى على الشغب الاجتماعي في دورة لا تنتهي و لا تتوقف من المطالبة برفع الأجور التي يستحقها هذا التضخم الخارج عن السيطرة . المعادلة القائمة بين الزيادات المتتالية للأجور خاصة في قطاع الوظيف العمومي و الزيادات الملازمة لها في السلع الاستهلاكية و الخدمات تكاد تحاكي معادلة "لماريوت" الفيزيائية فما تمنحه الدولة يمينا رغبة منها في تحسين ظروف الساكنة باليمنى تسلبه أباطرة السوق التقليدية والموازية باليسرى حتى أن الحركات الاحتجاجية لنقابات العمال صارت تخدم أصحاب شركات انبور انبور كما تصفهم السلطات وهي محقة في ذلك وهي سلوكات تلبي طلبات أرباب الابتزاز أكثر مما تلبي طلبات الطبقة العاملة بمختلف شرائحها أن المتتبع لمسلسل زيادات الأجور المتوالية وما يتبعها من رادفات تستحق قبل السنة المالية والاجتماعية ما يفترض أن يكون من أغنى العمال والموظفين عن السؤال والإلحاح في السؤال فالمتتبع لهذا المسلسل المكسيكي لا يستطيع إلا أن يسال وبإلحاح عن الفائدة من هذه الزيادات إذا كانت تتبع بعملية سلب ممنهجة وسرقة منظمة يشترك فيها أباطرة سوق السلع الاستهلاكية ويساندهم في ذلك تجار الخدمات وفي المحصلة النهائية تجد البلد نفسها في حلقة مفرغة من التضخم المتنامي الذي لا يعكس حقيقته الإحصائيات الرسمية حول المستوى المعيشي واخطر ما فيها أنها منعت وتمنع نشوء طبقة وسطى بدخل منتظم ومحترم ينقلها مع الزمن من هذا الانشغال المستنزف بالطاقة بتامين القوت والحد الأدنى لأسرهم من التفكير والانخراط في متطلبات الحياة وفيما تنتظر كل امة من طبقتها الوسطى المنتجة في العرف للنخب والأفكار ومن متداعيات هذا الإفقار المتواصل للطبقة الوسطى خاصة المشكلة لمختلف أسلاك الإدارات مؤسسات الخدمات العمومية في التعليم والصحة وغيرهما أنها تشكل واحد من اكبر المحفزات على الفساد والتساهل على الجنح وجرائم المحسوبية والرشوة والعبث بالمال العام . نحن أمام ظاهرة اجتماعية مركبة لم نحسب بعد كل تداعياتها على الفرد وعلى المجموعة الوطنية وعلى الأمن والسلم الاجتماعين ولعل أن بعض الخيارات المتسرعة الغير محسوبة مثل التشجيع المفرط على الاستهلاك بالتسهيلات القرضية قبل أن تصححها الحكومة مؤخرا بوقف التعامل بالقروض في مجال السيارات ساعدت بدورها على إدخال مكونات الطبقة الوسطى في فوضى استهلاكية ليس فيها أي فائض قائم يضاف إلى الاقتصاد الوطني وفي الحالتين الزيادات في الأجور التي وان كانت مشروعة واستجابت لها الدولة على الأقل في قطاع الوظيف العمومي الذي تتحكم في أجوره عبر الموازنة في حالة استحداث مورد جديد يشجع على الاستهلاك عبر الاقتراض فإن المستفيد الوحيد هو هذه الزمرة الكمبرادورية التي تعيش على عوائد الدورة الاستهلاكية دون أن تسهم لا في ترقية الانتاج الوطني أو تنظيمه او المساهمة بجزء بسيط من فائض القيمة أو المشاركة عبر طرق أخرى في إعادة توزيع الثروة على الأقل على مستوى خلق وظائف جديدة وفرص عمل وبالتالي مصادر دخل جديدة . خبراء الاقتصاد المنصفون لا ينكرون أننا ندفع اليوم فاتورة تراكمات لأخطاء قاتلة في السياسات الاقتصادية المتبعة في السنوات الأولى التي أعقبت الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى ما يسمى باقتصاد السوق و اقتران الانتقال لسنوات نفطية عجاف تدخلت خلالها املاءات صندوق النقد الدولي كانت وراء الفجوة الكبيرة بين المداخيل و الإنفاق حيث شهدت أجور الطبقة الوسطى حالة من التجميد الاضطراري فيما أطلق الانتفاع الفوضوي في التجارة الداخلية و الخارجية دورة من التضخم لم يبدأ التحكم فيها إلا في العشرية الأخيرة بأليات صارمة عبئ المستوى الماكرو و إجراءات على مستوى الأجور لم تؤت أكلها مع استمرار فقدان السيطرة على السوق. على مستوى المواطن البسيط الذي لا يلتفت إلى مقاربة خبراء الاقتصاد حتى حين تكون ذات مصداقيته فإنه لا يفهم كيف أن أسعار السلع خاصة ذات الاستهلاك الواسع تشهد بشكل اتوماتيكي ارتفاع ليس له صلة بتقلبات الأسعار في البورصات العالمية للمواد الغذائية تحديدا و كان أباطرة المتحكمين في السوق قد أصبحوا من كبار المدافعين عن مبدأ المكاسب التي لا يجوز الطعن فيها و التراجع عنها السكوت عن هذه الظاهرة أو تجاهلها ينطوي على تهديد خفي للسلم الاجتماعي يمكن بكل سهولة أن نتصور حالة يتحول فيها المستفيدون الأوائل من الزيادات في الأجور و اعني بهم المتحكمين في سوق السلع و الخدمات أن يتحولوا إلى شبكات منظمة تحرض على الشغب الاجتماعي للي ذراع الحكومة و حملها على دورة متواصلة للزيادة في الأجور مادام عوائدها تنتهي على جيوبهم و كأني بهم يقولون في أنفسهم ما قاله احد خلفاء بني العباس و هو يراقب غمامة عابرة :" اذهبي إلى حيث تشائين فان خراجك سوف يأتيني " و هم في ذلك صادقون ما دامت الزيادات في الأجور التي تضطر إليها الحكومة راغبة أو مكرهة أنها تضاف إلى هذا التراكم الجنوني للثروة في جيوب أمراء السوق الذين يتعاطون شكلا من الإرهاب لا يقل خطورة عن الإرهاب المسلح الدموي و يحولون بين الدولة و بين التوصل إلى حالة من الاستقرار في معيشة الناس و خاصة في معيشة الطبقة الوسطى التي يقوم عليها بناء الدولة فتشخيص الظاهرة لا يكفي بل الأهم هو التفكير في حلول و مقاربات جديدة يفترض أن تكون على رأس أولويات الحكومة و نواب البرلمان و بالشراكة مع النقابات الوطنية و لعل أهم إجراء يكون بتمكين وزارة التجارة من ترسانة قانونية جديدة و قوية تنظم التجارة الداخلية و الخارجية و تسمح في الحد الادني بامتلاك الدولة لدواوين قادرة على تحقيق توازن داخل السوق و منع حالات الاحتكار و المضاربات التي تعبث بجيوب المواطنين .