فيما يعلن غدا عن توليد قطر جديد مقتطع من أرض العرب بالسودان، لم يبقى من أسباب العزاء سوى أن تقول أم عمر للسيد البشير ما قالته أم عبد الله وهو يسلم مفاتيح آخر مقاطعة عربية من الأندلس للقشتاليين. مع نهاية ساعات يوم الغد سوف نشهد ميلاد دولة جديدة، تنظم إلى قائمة الدول، وقد إقتطعت من جسم بلد عربي ذي سيادة عبر عملية بتر بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود. بعد غد يكون لزاما على أساتذة مادة الجغرافيا في جميع المنظومات التربوية تعديل الخرائط، ومحاولة إقناع التلاميذ أن السودان لم تعد الدولة الأكبر في إفريقيا من حيث المساحة، وأن الأكبر منذئذ هي الجزائر، قبل أن تدبر لها عملية بتر في الشمال أو الجنوب. كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد، وترك السودان وحيدا يتخبط بقيادة فاقدة للحكمة والروية، في دوامة لن تتوقف بإنفصال الجنوب عن السودان، بل سوف ينتقل العبث الغربي الصهيوني إلى إقليم دارفور، والإقليم الشرقي، إلى أن تتم عملية تقسيم السودان إلى أربعة أقاليم ضعيفة، يسهل العبث بحكوماتها لتحقيق مخططات أخرى سوف تطال مباشرة مصر، ومعها دول عربية كثيرة مرشحة للتقسيم؟ في الضيف ضيعت اللبن قرار الانفصال لم ينتظر الاستفتاء، بل صار قدرا مكتوبا في اليوم الذي قبلت فيه حكومة السودان الضعيفة مبدأ الاستفتاء داخل جزء من أراضيها، وهي تعلم أنها لا تملك وسائل إغراء سكان الجنوب بالتصويت للوحدة، رغم أن ذلك كان ممكنا، لو أن السودان وجد عند أشقائه العرب ما يحتاج إليه من الدعم. فقد كان بوسع المال العربي، أن يتداعا لنصرة وحدة السودان بإنجاز إستتمارات ذات شأن في الجنوب، بل في جميع أنحاء السودان، لأن حماية وحدة السودان هي أساس لحماية مصر، وحماية وحدة وأمن السودان ومصر جزء لا يتجزأ من حماية سلامة ووحدة الكثير من الأقطار العربية.... فطوال أربعة أو خمسة عقود، كان مطروحا على قائمة العمل العربي المشترك تحويل السودان إلى سلة غذائية للعالم العربي، بما عنده من مقومات لقيام زراعة عصرية عالية الإنتاج تفي بأكثر من إحتياجات العالم العربي، لكن المال العربي، المهدد على الدوام بالنهب الغربي، أصر وما زال يصر على الاستثمار في العقار الأوربي، ومتاجر لندن، والمصانع التي تنتج مناصب شغل للغربيين، أو يقامر في البرصات المالية وداخل النظام الربوى، حتى يصيبه ما يصيب من يتخبطه الشيطان . مضاربات غربية على عنيمة الانفصال حتى قبل إعلان نتائج الإستفتاء على إنفصال جنوب السدان ، كانت المضاربة الغربية والصهيونية تجري على قدم و ساق ، تعد غلابة جنوب السودان بالجنة الموعودة ساعة إعلان الطلاق مع الوطن الأم. فالإستثمارات الإسراءلية والأمريكية بدأت في وقت مبكر، وسوف تعلن بعد حين عن قيام بؤرة صهيونية-غربية جديدة تضع هذا الإقليم من العالم العربي تحت الضغط المتواصل. ومع ذلك فإن أول إجراء سوف تتخده الحكومة التي سوف تنصب بأبوجا هو بلا شك فتح سفارة للدول العبرية، لتحكم السيطرة على الدول المتحكمة في منابع النيل، وتحول مصر والسودان إلى رهينة تبتز بالماء، وتقبل ما يسمح به لها. النظام العربي الرسمي الذي ظل يتفرج على مسار الإنفصال وهو يعد له في تل أبيب والعواصم الغربية، تحرك في الوقت بدل الضائع، ليس لنصرة السودان الموحد، لكن لطمأنة القيادة السياسية للكيان الجدديد بشأن الدعم العربي الموعود، ومرافقة العرب له في بناء الدولة الجديدة. وقد تابع المراقبون السياسيون ذلك الحراك المصري المتأخر، وكأنه تعبير عن رغبة مصر في نجاح مسار الإنفصال، مع أن أبسط تحليل إستراتيجي كان سيحرك مصر للقتال بكل ما تملك لمنع قيام هذا الكيان الغير آمن عند التقاء نهري النيل، ليضيف دولة مشاكسة على المياه، لن تتردد في الإستقواء بالدعم الأمريكي و الإسرائيلي، لتكون الجهة التي تسمح لدول حوض النيل بفرض الأمر الواقع على السودان ومصر، وحملهما على القبول بقسمة جديدة لمياه النيل. غير أن مشاكل السودان ومصر، ومعهما العالم العربي، لن تتوقف عند هذا الحد. الانفصال الذي يحضر لتقسيم السودان فالسودان الذي قبل بإتفاق السلام بهذا الثمن، سوف يكتشف قريبا، أنه إنما إنتقل من حالة حرب أهلية أساء إدارتها، إلى حالة يكون فيها مهددا بسلسلة من الحروب الأهلية في ما بقي من أقاليمه، وبحروب مع الكيان الجديد، الذي سوف يستعمل من قبل إسرائيل والغرب لإستنزاف ما بقي من السودان في نزاعات مفتوحة على الحدود لا تنتهي. تسليم السودان في الجنوب، هو بداية للتسليم غدا في إقليم دارفور، وسوف تكتشف القيادة السودانية أن الكلام الطيب الذي صدر عن جون كيري لا يلزم سواه، وأن أول من سيحرض ويسلح الكيان الجديد لحسم النزاع على المنطقة النفطية بأبيه هو الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وأن العبث لن يتوقف حتى تقبل دولة السودان بإنفصال إقليم دارفور الغني بالمعادن والنفط، وإقليم الشرق الذي يمنحهما مشاطأة على البحر الأحمر. الشرك في ما بقي من العمل العربي المشترك الآن وقد أصبح إنفصال جنوب السودان أمرا واقعا، وسبق التقسيم الذي كنا نخشاه في العراق، وهو قائم وسوف ينفذ إن عاجلا أم آجلا، يكون على النظام العربي الرسمي، أو ما بقي منه، أن يجيب شعوب العالم العربي على أسئلة محددة: 1-ماذا هو فاعل مع ملفات التقسيم المعلنة في أقاليم عربية أخرى، في العراق الذي أعلن أكراده صراحة النية في الإنفصال، وفي اليمن المرشح بوضوح إلى إنفصال الجنوب عن الشمال، وفي لبنان المهيئ لقيام عشرات الكانطونات الطائفية والمذهبية. 2-ماذا بقي من العمل العربي المشترك الذي يبرر الإنفاق على هذه الجامعة العربية المصابة بداء الرعاش الحميد؟ وكيف سيتعامل العرب مع هذا الواقع المأساوي بعد انهيار رهاناتهم الخاسرة على مسار السلام مع الكيان الصهيوني، وفقدان العراق الذي سقط بأيدي الولاياتالمتحدة وإيران مناصفة؟. 3-أليس من واجب الأمين العام للجماعة العربية ، أن يبادر أمسية الغد بإعلان استقالته، لأنه كان الرجل الذي سقطت في عهدته ثلاث دول عربية: الصومال والعراق والسودان، وانهارت في زمنه القضية الفلسطينية، وأرتد العمل العربي إلى أرذل العمر، ثم تكون له الشجاعة الكافية ليصارح الشعوب العربية بما يعلمه من تآمر حكامهم على مصالحهم الحيوية وعلى أمنهم القومي؟ تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وعلى الطرف الآخر، ينبغي لما بقي من النخب الصالحة، التي لم تنخرط في هذا الخراب الشامل أن تخرج عن صمتها ولو من باب إبراء الذمة، وتوضح للشعوب العربية ما يدبر لها، ثم تساعدها على إيجاد طريق وسط يحمي في الحد الأدنى السيادة على الجغرافية الموروثة عن سايكس- بيكو، حتى إذا كان الثمن التضحية بجملة من الحقوق، ودعوتها إلى النأي بنفسها عن هذه المسارات الكاذبة الخاطئة ، سواء تعلق الأمر بتلك المسارات الديمقراطية العرجاء، أو بمسارات العنف والشغب، أو التعويل على الخارج لتغيير الواقع. إقتطاع الجنوب من السودان العربي ليس نهاية في حد ذاته، بل هو إستكمال لمشروع قديم ينفذ على مراحل، بدأ مع إنتهاء الحقبة الإستعمارية القديمة، ولن يتوقف إلى بعد أن ينتهي ذكر شيء اسمه العالم العربي، وكأني بجميع القوميات، وورثة الإمبراطوريات التي وطأت أرضها خيول العرب، تري اليوم أن الفرصة قد حانت لإعادة العرب إلى خيامهم وإبلهم، لأن القضاء على العالم الإسلامي كحضارة، صمدت لأكثر من 1500عام، إنما مفتاحه في القضاء على الأمة التي حملت رسالته.