بكثير من القتل الإجرامي الحرام، قضت حكومة نيجيريا على جماعة " بوكو حرام" المسلمة، في واقعة جديدة من سلسلة حروب استباقية على الإسلام والمسلمين، لم تعد حكرا على الغرب المسيحي الذي يحيي هذا العام، مرور ألف سنة على سقوط قرطبة وبداية حرب الاسترداد، التي احتاج لإنهائها إلى 500 عام، فهل يحتاج، مع شركائه من قوى الاستكبار، إلى نصف الألفية الثالثة لمنع الإسلام من العودة لأداء دوره الريادي؟ * أم أن انتفاضة المسلمين الإيغور في الصين، والمستضعفين من جماعة "بوكو حرام" هي مقدمات لانتفاضات يقودها الأحباش والأعاجم في مشارق الأرض ومغاربها من "ضاحية الإسلام" بعد أن أحبطت المقاومات الشعبية مشروع إسقاط قلب الأمة في جزيرة العرب. * الأحداث الدامية التي شهدتها نيجيريا، وأودت بحياة أكثر من 600 مسلم على يد القوات الأمنية النيجيرية، لا تختلف في نهاية التحليل عن الأحداث التي أدمت المقاطعة المسلمة من بلاد الصين، والاثنان لا يختلفان عما جرى ويجري في أفغانستانوباكستان والصومال، في أطراف العالم الإسلامي، وثمة أطراف أخري مرشحة لانتفاضات شعبية مماثلة، الجامع المشترك بينها: مطالبة الحكومات الأهلية بتطبيق الشريعة الإسلامية، على الأقل ما يرفع كشعارات لها. * * انتفاضات أمم أعاجم أمة الإسلام * لا مراء أنه خلف هذا المطلب الشريف والشرعي، تتستر مطالب وغايات أخرى، تحركها دوافع قد تكون بعيدة بمسافات عن الدافع الديني الصرف، وقد تكون مجرد غطاء لمطالب لها علاقة بالحياة المعيشية للناس على الأكثر، وفشل الحكومات الأهلية في الوفاء بالحد الأدنى من الخدمات، أو تكون لها صلة بالمستويات المتدنية من إشراك الشعوب في إدارة أمرها، واستفراد النخبة بالريع السياسي و المادي، وفي بعض الحالات، جاءت كردة فعل لسياسات انفتاح غير مدروسة وبلا ضوابط في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، بمقاربات غربية، غالبا ما تصطدم بالميراث الثقافي، والعادات والتقاليد. كل ذلك ممكن ومقبول في سياق تفسير مثل هذه الانتفاضات الشعبية تحث شعار المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وقد صارت النموذج الأوحد للحراك الشعبي في عموم أرض الإسلام، بعد تراجع القوى السياسية العصرية من القوميين، والعلمانيين، وحتى تنظيمات ما يسمي بالإسلام السياسي، تراجع أدائها في إدارة الحراك الاجتماعي والسياسي، وغياب مجتمع مدني منظم، يؤدي وظائف الوساطة بين الحكومات والشعوب، ويلعب في الاتجاهين دور كاتم الصوت، ومخفف الصدمات. وقد انتهى هذا الدور إلى تنظيمات تنشأ في الهامش، في الدوائر الشعبية المقصية من كعكة الريع، ومن الشراكة في إدارة الأمر. * * ثمن استبعاد المسالمين من إخوان السياسة * حركات عريقة، مثل حركة الإخوان المسلمين فقدت مع الزمن القدرة على ملء الفراغ السرمدي الحاصل بين النخب وشرائح واسعة من الشعوب تزداد فقرا على فقر، ومزيدا من الإقصاء والحرمان، ولم تعد للتنظيمات السياسية التقليدية أية فرصة لغواية شعوب الهامش، وأمة المستضعفين في الأرض، ولا أمل أو رجاء يعقد على تنظيمات المجتمع المدني، التي فشلت حتى في إغراء الطبقات الوسطي بمساراتها ومقارباتها المستنسخة عن نظيراتها الغربية. لكل ذلك نشاهد هذه الصدامات التي تتفجر من غير سابق إنذار بين الحكومات وأمة المستضعفين من مواطنيها، لأن معظم هذه الدول قد سارعت إلى تفكيك المؤسسات الثقافية والروحية التقليدية، قبل اختبار مؤسساتها العصرية المستنسخة من التجربة الغربية، والأمثلة هنا كثيرة تدين النخب الحاكمة. * ففي باكستان، ساهمت المنظمات التقليدية الإسلامية في إدارة هدنة طويلة المدى بين الحكومات وأمة المستضعفين إلى حين خرق مشرف الهدنة، وتجاوز الخطوط الحمراء بهدم المسجد الأحمر، معقل طالبان، وإباحة وزيرستان للطيران الأمريكي. * * مؤاخاة الصوفية في انتظار إخوان الصفا * من دارفور شرقا إلى السنغال غربا، كانت الزوايا والطرق الصوفية تلعب، في زمن الاستعمار كما في زمن الاستقلال، دور الوسيط الاجتماعي، وقد انتبه الاستعمار إلى هذه المؤسسات فاجتباها وخبرها، فاستمال التنظيمات المعتدلة المسالمة منها، فيما قاتل الزوايا والمشيخات الروحية التي تبنت الجهاد. وكان بوسع الحكومة السودانية أن تستعين بمشايخ الطريقة التيجانية التي لها حضور قوي في دارفور لمنع الانفجار، وتعطيل التدخل الغربي. * الرئيس بوتفليقة انتبه إلى أهمية الدور الذي قد تلعبه هذه المؤسسات التقليدية في مواجهة المد الإسلامي السياسي المتهم بالأصولية أو السلفي، فمنح الزوايا دورا غير مسبوق، واستمال الطرق الصوفية التي كانت متهمة في الستينيات والسبعينيات بموالاة القوى الرجعية، وأوخذت بما اقترفته بعض المشيخات الصوفية من عمالة للاستعمار. وبالنظر إلى ما آلت إليه مساجد البلاد، تحت قيادة وزير قادم من هذا المجتمع الصوفي التقليدي وعودة الكثير من العامة إلى التمسح بقبور الأولياء الصالحين، والمشاركة الواسعة في طقوس الزوايا والانتساب للطرق الصوفية. * نيجيريا ثاني أكبر بلد إسلامي في إفريقيا بعد مصر، عاشت فترة طويلة من الاستقرار والسلم والأمن، في بلد كان من الصعب أن يتعايش فيه المسلمون والمسيحيون، وباستثناء بعض الحوادث المنفردة، فإن الشمال النيجيري المسلم، لم يكن يشكل أي تهديد على الحكومة المركزية، رغم ما عرف عن الحكومات النيجيرية المتعاقبة من فساد، وحرمانها المناطق الشمالية المسلمة من الريع النفطي، تماما كما حدث مع المقاطعة الصينية وسكانها من الويغور المسلمين، والتي عاشت شبه انتفاضة شعبية تعاملت معها الحكومة الصينية بقسوة وبقدر من التمييز العرقي والديني. * * قليل من الحلال لجماعة "بوكو حرام" * في بحر أسابيع قليلة، نفذت الحكومة الفدرالية في نيجيريا حملة تطهير ومطاردة عرقية للمسلمين بمحافظات شمال نيجيريا، خلفت أكثر من 600 قتيل، ونقلت الفضائيات ووكالات الأنباء صورا بشعة لعشرات الجثث من الرجال والنساء والأطفال وهي ملقاة في الشوارع، واتضح أن معظم القتلى أصيبوا في الظهر، بما يشير إلى أنهم كانوا في حالة فرار من آلة القمع، وظهرت صورا لقائد جماعة "بوكو حرام" مقتولا، وهو مقيد الأيدي، بما يعني انه قد اعدم بعد إلقاء القبض عليه. وتبقي إحداث شمال نيجيريا محفوفة بالغموض، وتظهر للوهلة الأولي، وكأنها عملية مدبرة لترهيب المسلمين بهذا البلد الإفريقي الكبير، والتمهيد لإنشاء جبهة ساخنة جديدة في الحرب الكونية المفتوحة على العالم الإسلامي، تتأكد يوما بعد يوم، أنها حرب استباقية على طريقة الحروب الاستباقية التي يقودها الكيان الصهيونية في قلب العالم الإسلامي. * * حروب استباقية بضاحية الإسلام * المعالجة اللصيقة لقلب العالم الإسلامي في الجزيرة العربية والشام، منذ قرابة سبعة عقود لم تأت أكلها على ما يبدوا، لا بالقوة الصلبة البهيمية، كما جري في فلسطين ودول الطوق في الحروب الخمسة مع الكيان الصهيوني، أو في الغزو الأمريكي للعراق، حيث صمد القلب الإسلامي مع قيادات قومية فاشلة، لم تحسن إدارة الصراع، وأخفقت في تفعيل مقومات الأمة الهائلة، كما لم تنجح المعالجة بالقوة الناعمة، في محاولات بائسة لغرس أنظمة تدير الحرب بالوكالة على مواطنيها من المسلمين، فكان أن خرجت من قلب جزيرة العرب، الممسوكة بقبضة من حديد أشد القوى السلفية عدائية للغرب، وأكثرها طلبا لإعادة تحرير الفضاء الإسلامي، وإعادة بناء خلافة المسلمين. * ولأن مشروع تدجين قلب العالم الإسلامي تعثر، حتى لا نقول فشل بالكامل في أهدافه الإستراتيجية، فان التكالب على العالم الإسلامي انتقل إلى الإطراف والحواشي، من باكستان واندونيسيا شرقا، إلى منطقة الساحل الإفريقي غربا، ومن الشيشان والبلقان شمالا حتى الفلبين، ومنطقة بلاد السودان والصحراء الكبرى جنوبا. فليس من الصدفة أن يقترن هذا الهجوم المركز على أطراف العالم الإسلامي بانهيار المعسكر الشرقي، وانتفاء الحاجة إلى العالمين العربي و الإسلامي في مقاومة التمدد الشيوعي، كان آخر فصل منه مقاتلة السوفييت في أفغانستان بدماء المسلمين، وتمويل عربي، قبل أن ينقلب الغرب على حلفائه من العرب والمسلمين. * لنتذكر السهولة التي تم بها اجتزاء تيمور الشرقية ذات الأغلبية المسيحية من اندونيسيا، والحرب الانفصالية بالجنوب السوداني، والحرب المتواصلة ضد الأقليات المسلمة في الفلبين، وتواطأ الغرب في حرب الإبادة الروسية في الشيشان، والضغوط الهائلة التي مارستها الولاياتالمتحدة على باكستان لشل المقاومة الإسلامية لتحرير إقليم كشمير من السيطرة الهندوسية. ولن يستغفلنا الغرب، لا في معالجته الظالمة لحقوق الشعب البوسني، ولا في دعم انفصال إقليم كوسوفو عن صربيا الذي كان جزءا من مشروع منع قيام دولة صربية قوية حليفة للروس في قلب أوربا. * تكالب القوى العظمى على الفضاء الإسلامي، مع ما صاحبه من تقتيل وفتك، وتعطيل للمشاريع القطرية والقومية، يحمل أكثر من بشارة خير، وفيه من الشواهد ما يكفي، على أن جسم العالم الإسلامي بقي حيا، ولم يتفكك حتى وهو في حالة ضعف بنيوي، وأنه بقي في نظر القوى العظمى مصدر خطر وتهديد، يحتاج إلى هذه المعالجة بالساخن والبارد، وبأنواع من الحروب الاستباقية، ومعارك الاستنزاف العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية. * * ألف سنة من حروب الاسترداد * لنتذكر أن القوى العظمى الإفرنجية، احتاجت إلى قرابة خمس قرون لاستكمال وإنهاء حرب الاسترداد المسيحية للأندلس، وبالتحديد احتاجت إلى 489 عاما، إذ أن حرب الاسترداد بدأت سنة 1009 باستيلاء القوة المسيحية القشتالية الصاعدة على قرطبة، وفتحت أمامها آفاق واسعة مع نهاية ولاية هشام الثالث الذي سقطت معه الخلافة الأموية في الأندلس سنة 1039، وانتهت سنة 1492 بسقوط غرناطة على يد فرديناند الثاني، ملك أرغونا، وزوجته إيليزابث القشتالية، وعلينا أن نتذكر، أن ما بين سقوط الخلافة الأموية وسقوط غرناطة جرت حروب استنزاف في الجبهتين الغربية بالأندلس، والشرقية حول فلسطين وبيت المقدس، أدارتها قيادات إسلامية محلية، بدءا بدولة المرابطين ودولة الموحدين وحتى ملوك الطوائف، إلى عهد أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة. ورغم ذلك سمع مع أمه عائشة الك التوبيخ الذي ظل يطارده في كتب التاريخ، ويعير به ملوك ورؤساء الطوائف في العصر الحديث: * ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تدافع عليه مثل الرجال * حروب الاسترداد الحديثة التي جرت منها نسخة على يد الاستعمار التقليدي فشلت في الغرب كما في الشرق، ولم ينجح الاستعمار الفرنسي في تفكيك البنى الدينية والثقافية لمجتمعات المغرب الإسلامي، كما فشل معه الاستعمار البريطاني في تغيير هوية المشرق العربي، وفشل الحكم الشيوعي السوفييتي والصيني في تغيير هوية المسلمين بشبه القارة الهندية، وأجزاء من الصين الشرقية ودول آسيا الوسطى. * * مقاومة شعوب "القلب" تلهم قلوب أمة "الضاحية" * ما نراه اليوم من توظيف الحكومات الأهلية في حروب محلية على المسلمين، له نظائر في التاريخ، فشلت كما سيفشل إرهاب الحكومات التابعة على شعوبها، ذلك أن حركة تحرير المسلمين سوف تتعاظم، وسوف تجد الأقليات المسلمة في الصين والهند، وتعدادها بمئات الملايين، سوف تتعاظم وتجد محفزا لها على المطالبة بالاستقلال وممارسة حق تقرير المصير، ورفض الذوبان في كيانات سياسية تستعدي عقيدة المسلمين، وسوف تجد محفزات في النجاحات التي تحققها المقاومات الشعبية الإسلامية في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين والصومال بإمكانيات بسيطة. * الأستاذ هيكل، لفت انتباهنا إلى أن الحروب الأربعة التي خاضها قلب العالم الإسلامي حول فلسطين مع الغرب عبر الكيان الصهيوني لم تكلفنا أكثر من أربعين ألف شهيد، ومع ذالك كلفتنا الكثير في ميزان التاريخ، وبتأثيراتها وتداعياتها السلبية على الوجدان العربي والإسلامي، ويراد لنا أن ننظر إليها كهزائم وانكسارات لم تبق لنا أدنى فرصة لاسترجاع الحق والأرض، وتستحضر هزيمة 67 على الدوام على ألسن نخب استسلمت، وتريد للأمة أن تستسلم لما يسمى بمسار السلام الذي تدفع الأمة ثمنه بأربعة أخماس من أرض فلسطين التي خاض من أجلها أسلافنا ثمانية حروب دامية مع الفرنجة، وبتطبيع قسري مع الكيان الصهيوني ككيان دائم مزروع في قلب، الأمة كحاملة طائرات دائمة للعدوان الغربي، وأن نذهب إلى هذا الاستسلام، في زمن تتجمع فيه الشواهد والقرائن على بداية استفاقة حقيقية للعالم الإسلامي، تشهد عليها هذه العدوانية تجاه الإسلام والمسلمين، التي لم تعد حكرا على الغرب، وتشاركه فيها القوى العظمى الناشئة، وبعض حكومات الدول الإسلامية، التي تكرر خيانات ملوك الطوائف.