في خطاب أمام قيادات ليبية، وسفراء أجانب، وعشرات الصحفيين الأجانب، ظهر الزعيم الليبي في صورة الرجل الذي يكون قد استعاد المبادرة، وتحدى المجموعة الدولية بإرسال لجنة تقصي الحقائق، كما حذر أمريكا والغرب من مغبة التدخل العسكري الذي سوف يوجب على الشعب الليبي واجب الدفاع عن النفس. - اختار الزعيم الليبي معمر القذافي الذكرى الرابعة والثلاثين للإعلان قيام الجماهيرية الليبية ليرد بقوة على الحملة العالمية التي كانت تستهدف ليبيا من خلال استهداف القذافي ونظام الجماهيرية وسواء اتفقت مع القذافي أم اختلفت فانه خاطب الغرب، والأمريكيين تحديدا ومعهم منظمات ما يسمى بالشرعية الدولية بجملة من التحديات التي لا ترد. فعلى مستوى الأحداث قدم الزعيم الليبي سردا مفصلا للأحداث التي شهدتها بعض مدن شرق ليبيا، واستهداف مجاميع مسلحة نسبها للقاعدة بعض مراكز الشرطة والثكنات العسكرية، هي التي كانت وراء سقط الضحايا من جانب قوات الأمن والجيش، ومن جهة المجاميع المسلحة، ومع التسليم أن هذه تبقى محض وجهة نظر لطرف معني بالأحداث، فان الزعيم الليبي قد تحدى المجموعة الدولية، وتحديدا مجلس الأمن بإرسال لجنة تقصي الحقائق، قال انه سوف يفتح لها المجال للتحقيق بكل حرية، وهذا تحدي يلزم مجلس الأمن الذي اصدر قراره رقم 1970 بناء على معلومات لوكالات أنباء لم يكن لها مراسلين داخل ليبيا. وفي هذا السياق يكون من المفيد التذكير بان مجلس الأمن الذي سبق أن دعا إلى إرسال لجنة التقصي الحقائق في عدوان غزة لم ينجح في إقناع الكيان الصهيوني بالتحقيق مع جنوده الذي ارتكبوا المجازر في غزة فكيف إذا كان الزعيم الليبي هو الذي تطوع باسم القيادة الليبية بطلب إرسال لجنة تقصي الحقائق، ولم يضع أمامها أي شرط أو قيد وما لم تستجب المجموعة الدولية لهذا الطلب فإنها ستفقد حتما ما بقي لها من مصداقية إذا كان لها مصداقية. التحدي الثاني جاء على مستوى ادعاءات الحكومات الغربية التي دخلت في مزايدات بشان تجميد أرصدة بمليارات الدولارات زعمت أنها ملك للقذافي وأبنائه، فقال لهم القذافي في تحدي لها، إذا كان عندكم أرصدة باسمي أو باسم أبنائي فهنيئا لكم بها مسبقا، لكن قيامكم بتجميد أرصدة هي ملك للدولة الليبية فهو قرصنة صرفة لن تسكت عنها ليبيا. التحدي الثالث كان موجها تحديدا للرئيس الأمريكي أوباما الذي حذره من أية مغامرة عسكرية لان أمريكا سوف تجد نفسها أمام شعب مسلح لن يسمح للأمريكيين بسرقة نفطه وقوت أبنائه. مع هذه التحديات بعث الزعيم الليبي الذي ظهر بكل عنفوان، بعث بعدة رسائل مشفرة، للولايات المتحدة والغرب من جهة، وحتى لجيرانه مصر وتونس، حين لمح إلى انه قد يفكر في الإبقاء على المسلحين في درنة يقيمون إمارة إسلامية، ليرى الليبيون، والعرب والغرب هذه التجربة، في محاولة لتخويف جيرانه المصريين من قيان بؤرة للقاعدة متاخمة لمصر، كما حذر الغرب من أن تتحول سواحل ليبيا إلى ما يشبه سواحل الصومال بمجاميع للقرصنة. التجربة تخرب الملاحة البحرية الدولية الخطاب الأخير للزعيم الليبي، كان أكثر هدوءا، وسياسيا بامتياز، فقد بعث بعدة رسائل مطمئنة لسكان المدن الشرقية بعرض عفو عن الشباب الذي حمل السلاح، وإفساح المجال أمام مجاميع القاعدة للخروج من ليبيا والتسلل إذا شاءوا إلى مصر أو تونس، في تهديد صريح للجارتين. كما جدد وعده بفتح حوار من اجل كتابة دستور، وفتح الإعلام، وتوسيع هامش الحريات. غير انه حذر سكان المناطق الشرقية من خطورة الإبقاء على الأوضاع إلى ما لا نهاية، ودعاهم إلى القيام بالتفاوض مع أبنائهم ممن حمل السلاح، ومنحهم العفو وعند الضرورة، قال الزعيم الليبي انه سوف يستشير الشعب الليبي في الطريق التي يمكن أن يعالج بها الوضع بالقوة، إذا ما فشل سكان شرق ليبيا في تحرير مدنهم من المجاميع المسلحة. مهما يقال عن العقيد القذافي، فانه بدا يهتدي إلى الأسلوب السياسي الذي ينبغي أن تعالج بها هذه الفتنة, فقد سحب من الولاياتالمتحدة ورقة التبرير للتدخل العسكري بامتناعه الطوعي عن استعمال القوة ضد المدن التي استولى عليها المسلحون، وعرض أكثر من طريقة للتسوية السلمية، بما في ذلك دعوته لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد الإفريقي للتوسط. كما تحاشى التهجم على الدول العربية، وعلى الجامعة العربية التي كانت السباقة لعزل ليبيا وتجميد نشاط ممثليها في الجامعة، ومزج بين الوعد والوعيد تجاه الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية بالتلويح إلى إمكانية أن يترك الأوضاع تتعفف بالمدن الشرقية بكل ما في ذلك من تداعيات على الأمن في مصر تحديدا وعلى سلامة الملاحة البحرية بالبيت الأبيض، غير انه كان حازما تجاه التهديدات الغربية بالتدخل العسكري حتى وان كان قد استبعد أن ينزلق أوباما نحو توحل جديد في رمال ليبيا. في هذا الخطاب الذي كانت فصوله مدروسة للغاية، لم يكتف القائد الليبي بطمأنة الشعب الليبي حول وحدة ليبيا التي لا مساومة بشأنها، وبإصلاحات سياسية، لعل أهمها فتح الحوار حول تحرير دستور للجماهيرية، وفتح الحريات، بل أن القذافي قد خصص الجزء الأكبر من الخطاب إلى الغرب بأكثر من تحذير من مغبة استغلال الأحداث لتبرير تدخل عسكري، لكنه في المقابل تحاشى اتهام أمريكا والغرب بالضلوع في الأحداث، حتى وان كان قد لمح إليه، في محاولة لإبقاء جسور التواصل مع المجموعة الدولية. واضح أن الزعيم الليبي الذي يكون قد فاجأته الأحداث في الأيام الأولى وظهر وقتها متوتر، يكون قد استعاد زمام المبادرة، ووحدة قيادة الجيش فظهر بصورة تبعث على طمأنة الشعب الليبي، وانه سوف يتعامل بصبر وروية مع الأزمة وتفضيل الحوار على القوة وهذا ما يتمناه كل عاقل للشعب الليبي لان اللجوء إلى القوة مع الانفلات في السلاح سوف يقود إلى تفكيك أواصل ليبيا، ولن يخرج منه أي طرف منتصر سوى القوى الغربية المتربصة بأوطان الشعوب العربية.