العالم العربي أن تكون في سدة الحكم أو أن تكون بعد عمر طويل جدًا في القبر أو أن تكون في بعض الحالات في السجن - لا قدر الله ولا كان - إذا أزاحك انقلاب عن السلطة ذلك أن هاتين هما الوسيلتان الوحيدتان في البلاد العربية لانتهاء الرئاسة، لا نعرف شيئًا اسمه التداول السلمي للسلطة فهذا أمر يوجد عند الكفار من الغربيين أو من غيرهم حتى من الذين لا يؤمنون بدين من الأديان السماوية كالصينيين والهنود. على كل حال، هذه خاصية لا تعرفها الأنظمة السياسية العربية. ولكنى رأيت في الجزائر شيئًا مختلفًا بعض الشيء. تفضل المجلس الدستورى الجزائري فدعاني لحضور مؤتمر حول قضية تفسير الدستور وتأويله بين مجموعة من رؤساء المحاكم والمجالس الدستورية في الدول العربية ودول أخرى كثيرة وعدد قليل من أساتذة القانون الدستورى، وقد لبيت الدعوة سعيدًا بها، مقدرًا لأصحابها، وشاكرًا للمستشار محمد عبدالقادر، الأمين العام لاتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية ونائب المحكمة الدستورية العليا في مصر، إذ تفضل، أكرمه الله، ووجه إليّ الدعوة أيضًا لحضور هذا المؤتمر المهم. ولن يكون هذا المقال درسًا في موضوع تفسير الدساتير وتأويلها بطبيعة الحال، سيكون مقالاً عن تلك الزيارة لذلك القطر العربي الأبيّ: الجزائر. والجزائر من البلاد العربية القليلة التي كانت زياراتي لها قصيرة ونادرة. زرت الجزائر بمناسبة تشييع جنازة الرئيس هوارى بومدين، رحمه الله، وزرتها أستاذًا زائرًا لمدة أقل من أسبوع في إحدى جامعاتها، قبل ذلك من قبل المجلس الدستورى الجزائري ولكن ظروفي لم تمكني من تلبية تلك الدعوة لأسباب لا أذكرها الآن. وأخيرًا زرت الجزائر هذه المرة. وكم أنا سعيد بهذه الزيارة. وفي أيام الزيارة الثلاثة استغرق المؤتمر يوم الخميس كاملاً وجزءًا كبيرًا من يوم الجمعة. وصحبني أحد المرافقين من الإخوة الجزائريين في جولة زرت فيها معالم الجزائر العاصمة، وبدأنا بزيارة الكاتدرائية الكبيرة المسماة »نوتردام الأفريقية« notre dame del. Afrique على غرار نوتردام باريس الشهيرة، وكانت تجرى فيها إصلاحات كبيرة فلم نستطع زيارتها من الداخل ولكننا جبنا حولها وهي تقع على هضبة عالية وتطل على البحر وعلى جزء كبير من المدينة التي تقع على عدة هضاب وليست مستوية كالقاهرة. هي أقرب إلى روما وهضابها ووديانها وهذا التنوع يضفي على المدينة طعمًا آخر، وزرنا مقام "نصب"الشهداء، مهيب ورائع ويطل على الجزائر كلها ليذكرها بأيام المجد والفخار. وزرنا تمثال القائد الجزائرى الكبير "عبدالقادر الجزائري" الذي حارب المحتلين الفرنسيين عند دخولهم الجزائر العام 1832 خمسة عشر عامًا كاملاً ثم كان ما كان من غلبة القوة والوحشية على الشجاعة والاستبسال واحتلت الجزائر أكثر من مائة وعشرين عامًا إلى أن قامت ثورتها الكبرى في أول نوفمبر 1945 واستمرت سبع سنوات كاملة إلى أن حققت للجزائر استقلالها وأرغمت الاحتلال الفرنسى على أن يخرج مذمومًا مدحورًا. وكان مرافقي الجزائري لا يفتأ يقول لي هذا المكان استشهد فيه الشهيد فلان وهذه الجهة وقعت فيها معارك دامية وهذا الميدان هو ميدان الشهداء وهذا هو حي القصبة الشهير الذي خلده عندكم فيلم جميلة بوحيرد المناضلة المعروفة التي مازالت على قيد الحياة ولم يكتب لها رغم قيادتها كثيرًا من المعارك الاستشهادية أن تكون بين المليون شهيد الذين قدمتهم ثورة الجزائر قربانًا لاستقلالها، وهذا الشارع أطلق عليه اسم الشهيد فلان وهذا الميدان ذو الاسم الفرنسي أطلق عليه هذا الاسم، لأن هذا الفرنسي خرج على قومه ووقف مع ثورة الجزائر وقفة صلبة نبيلة حتى قتل وكان من حقه أن يخلد اسمه بأن يطلق على ميدان في وسط المدينة. وأرانى بعدت كثيرًا عن عنوان هذا المقال »فى الجزائر رؤساء جمهورية سابقون«. في يوم السبت الأول من نوفمبر عام 2008 دعيت في الصباح لأحضر احتفال الجزائر بعيدها القومي في قصر الشعب بمناسبة مرور أربعة وخمسين عامًا على ثورتها الكبرى، تلك الثورة التي استمرت سبع سنوات ولم تعرف الانقسام في صفوف المناضلين طوال سنوات التحرير ولهذا نجحت وحققت أهدافها. وليت الإخوة الفلسطينيين يعون هذا الدرس جيدًا حتى لا يفشلوا وتذهب ريحهم نتيجة انقساماتهم التي لا يسعد بها ولا يفيد منها إلا إسرائيل التي تحتلهم وتذيقهم صنوف الهوان وليت الإخوة في العراق أيضًا مع الفارق بين الحالتين - يعون هذا الدرس. وذهبت ووجدت قصر الشعب يموج بمئات من المدعوين، وأدخلنا - مجموعة المؤتمر الدستوري - إلى مكان معين في القاعة لكي ننتظر رئيس الجمهورية ونسلم عليه ونهنئه بالعيد، وطال انتظارنا قليلا ولكن ما أكثر الأحاديث والذكريات التي كنا نتداولها ونسمعها من الإخوة الجزائريين خاصة كبار العمر منهم، ثم حدثت حركة توحي بأن لحظة لقاء رئيس الجمهورية قد اقتربت. وهنا رأيت ما لم أكن أتصور ولا أتوقع أن أراه في بلد عربي أو غير عربي. رأيت رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة قادمًا وأمامه رجلان ظننتهما للوهلة الأولى أنهما من الحرس الجمهورى وبعد هنيهة إذا بي - وأنا لا أصدق عيني - أرى أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد وبعدهما عبد العزيز بوتفليقة يتقدمون للترحيب بنا والسلام علينا. وعندما سلمت على الرئيس بن بلة وذكرت له اسمي إذا به يشد على يدي بحرارة شديدة، وتذكر الرجل الكبير أنني التقيته في باريس وفي القاهرة وفي بعض العواصم العربية أكثر من مرة، وسمعته يقول بعض الكلمات التي أدركت فيها معنى الترحيب ورحيق الذكريات. عندما قابلته في باريس ذات مرة في بداية الثمانينيات، قال لي يا أخي إنني أريد أن أزور القاهرة وأريد أن أزور قبر أخي، وعندها تصورت أن له أخًا مدفونًا في القاهرة، ولكني عرفت بعد ذلك أنه يقصد زيارة قبر جمال عبد الناصر الذي لا ينساه جزائرى واحد، وجاء بعدها بن بلة إلى القاهرة أكثر من مرة وسعدت بلقائه في بعض هذه المرات. وبعده سلمت على الرئيس الشاذلي بن جديد ولم أكن قد التقيته من قبل، ثم سلمت على السيد رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة الذي غمرني بكثير من عبارات الود والترحيب التي أحسست أنها ليست موجهة لي وإنما هي موجهة إلى مصر، مصر التي كانت. وقد تأثرت إلى أبعد الحدود بهذا المنظر الحضاري المهيب الذي يندر أن تراه في أي بلد آخر، بن بلة بقامته الفارعة وخلفه الشاذلي بن جديد بشعره الأشيب الوقور وخلفهما الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بجسمه القليل وبهدوئه ونظرته الفاحصة. أليست هذه صورة حضارية نادرة؟ من يدرى لعله يأتي يوم نرى فيه في بلاد العرب رؤساء جمهورية سابقين كما نراهم في كل بلاد العالم. عندئذ سنكون قد وضعنا أرجلنا على عتبات الديمقراطية. بقلم د.يحيى الجمل * عن "جريدة المصري اليوم" المصرية