فتحت الاعتداءات الإسرائيلية الهمجية ضد سكان غزة، أو" ضد حماس" كما تسوقه بعض الأنظمة العربية، جبهات صراع داخلية في أوساط الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظام المصري، المنشغل جدا منذ بداية القصف بالبحث عن طريقة مناسبة يواجه بها حزب الله في لبنان، لأنه "تطاول على النظام المصري، وحرض الشعب على الضغط أكثر لتوافق الحكومة على فتح المعابر أمام ضحايا القصف الإسرائيلي من الفلسطينيين". وأمام هذه "الجريمة الخطيرة" التي ارتكبها زعيم حزب الله اللبناني، بتطاوله على النظام المصري، عندما توجه للمرة الثانية "يوم الاثنين"، وعاتب المصريين على موقفهم من الغزو، قبل أن يتوجه بخطابه للشعب المصري، ويدعوه للمساهمة في تغيير هذا الموقف، ليس بالانقلاب على النظام، بل بالضغط السلمي، تحركت الدبلوماسية المصرية على طريقة الطوارئ، واستطاعت في ظرف وجيز أن تستقطب الشرائح المؤثرة سياسيا وثقافيا لتجنيدها في مهمة التصدي لنصر الله، على نحو يوحي أن حربا وشيكة الوقوع بين مصر وحزب الله. ومن العاصمة التركية، التي تلتقي سياسيا مع القاهرة في مسعاهما المشترك للإنضمام إلى الاتحاد الأوربي، كال وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط كما من السب والشتم لنصر الله، ووصفه بأنه المتسبب في الفوضى التي يعيشها لبنان، وأنه " شخص لا يعي من أمره شيئا"، بل وجعله في خانة واحدة مع العدو عندما قال له "إن القوات المصرية التي تدعوها لرفض مواقف القيادة السياسية، مهمتها الدفاع عن مصر ضد أمثالك". رسالة أبو الغيط، وصلت كاملة غير منقوصة إلى الصحافة المصرية، التي وظفتها على طريقة يفهم منها أن الحرب تدور في شوارع القاهرة، حيث صدرت عناوين الأمس في القاهرة على موجة الإرسال التي ضبطها أبوالغيط في أنقرة، ووصفت "الأهرام" نصر الله بأنه "زعيم دعاة الفوضى"، كما كتبت بالبنط العريض "مصر تتعرض لحرب من بعض الدول"، وبلغة أجرأ، كتب رئيس تحرير يومية "الجمهورية" محمد علي إبراهيم، يصف نصر الله بالعميل رقم "واحد"، و أنه "بطل مقاومة أجيرة"، وزعيم شبكة تجسس في بيروت، تعمل على تقسيم لبنان وإقامة دولة شيعية على النموذج الإيراني... وبنفس الأسلوب واللغة، هاجم رئيس مجلس الشورى المصري، والأمين العام للحزب الوطني الحاكم صفوت الشريف، حسن نصر الله الموصوف "بالمنفلت"، وصاحب الأجندة الخارجية، وعميل القوى الإقليمية. وفيما يبدو أن الديبلوماسية المصرية، قد نجحت في استقطاب وسائل الإعلام المحلية، وحتى الدولية منها، وجعلتها، تركز بالحديث عن انشغالات النظام المصري، بدل الانشغال بجريمة غزة، استطاعت أيضا أن تضبط لغة النقاش داخل البرلمان على موجة الإعلام العمومي، حيث يلاحظ المتتبع للنقاشات التي تجري داخل قبة البرلمان المصري أن هناك "حربا كلامية" لا تقل شأنا عن العدوان الاسرائيلي على أهل غزة، وعلى هذا النحو، هاجم المساعد الأسبق لوزير الداخلية المصري والنائب الحالي في البرلمان عن الحزب الحاكم محمد عبد الفتاح، جماعة الإخوان المسلمين، واتهمهم بالسعي إلى "تخريب مصر وتقسيمها على الطريقة الفلسطينية"، ليرد عليه نائب إخواني على طريقة نشر الغسيل "تاريخك أسود يا عبد الفتاح في التعذيب، أيام كنت ضابطا في وزارة الداخلية"، وانضم إليه النائب المستقل في البرلمان جمال زهران الذي وصف الموقف المصري تجاه العدوان على غزة بأنه "موقف العملاء"، فيما طالب نائب آخر بإقالة وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، لأنه "لا يعبر عن إرادة الشعب المصري". ومهما كانت لغة النقاش، وحدة الملاسنات، تظل إسرائيل المستفيد الأول والأخير من كل هذا اللغط، لأن تآكل العرب داخليا في زمن الأزمات، عامل مهم، يوفر الوقت الكافي لإسرائيل كي تؤدي مهمتها المسطرة بإتقان، وبعد "خراب مالطا" ، تستفيق هذه الأنظمة، كي تطالب بعقد قمة عربية طارئة....