تحركت الآلة الدعائية لتملأ الفراغ في محاولة لإيهام الرأي العام بمقاطعة الانتخابات الرئاسية أفريل القادم، مستبقة الحدث قبل وقوعه لعلها تستفيد من نتائج العزوف المحتمل، لتبنيّ نسبة المقاطعين لصالحها، وهذا نوع من المغالطة السياسية لا ينطلي إلاّ على السذج والسوقة والدهماء. موقف سياسي أم احتجاج اجتماعي؟ سمح التحول الديمقراطي في البداية بإقبال جماهيري واسع على صناديق الاقتراع، كما دفع التهديد الاستقرار الوطني بتحرك شعبي كبير للدفاع عن السلم والوحدة، ولكن ومع مرور الزمن بدأ نوع من الفتور في الاقبال على صناديق الاقتراع، ولم يكن ذلك بسبب الموقف السياسي وإنما بسبب الاحتجاج الاجتماعي، فأغلب من يحدثك عن العزوف الانتخابي يربطه بالوضع الاجتماعي كالسكن والبطالة، ولا تكاد تعثر على الموقف السياسي إلا في بعض الندوات الصحفية لبعض الأحزاب أو في مقراتها الوطنية والتي تحاول في كل مرة الربط بين موقفها بالمقاطعة وبين السلوك الانتخابي للمواطنين، محاولة استباق نتائج الصندوق وإلحاق جمهور المقاطعين بقواعدها النضالية في مغالطة واضحة للرأي العام. إنّ ا لفتور الانتخابي مرده أيضا إلى الفتور السياسي، وأقصد به التحوّل من فكرة المغالبة إلى طرح المشاركة، إذ أنّ التجربة السياسية لمعظم الأحزاب وممثلي المجتمع المدني اقتنعت بأن كل منها يمثل لبنة في بناء الجزائر وليست هي الجزائر، الأمر الذي دفع بالقوى التمثيلية للتحالف السياسي والاجتماعي، الأمر الذي أدى إلى تراجع حدة الخطاب السياسي وارتقاء المعارضة إلى مستوى الفهم الحقيقي للوضع وأنتج ذلك نوعا من الشراكة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى فتور القواعد النضالية وهي تمر بمرحلة هدنة سياسية واجتماعية. هل انتهى التهديد؟ القراءة الخاطئة أو الجزئية للتهديدات التي تتربص بالجزائر تقف أيضا وراء عزوف الكثيرين عن المشاركة السياسية، فالتهديد الإرهابي شكل في مرحلة من المراحل عامل تحفيز جماهيري للتحرك دفاعا عن الوطن، ويبدو أنّ الكثير اعتقد خطأ أنّ التهديدات والتحديات قد زالت، ولذلك لم يعد الوطن في حاجة إلى الهبة الوطنية الجماهيرية للدفاع عنه. والواقع أنّ الجزائر تقف اليوم في مواجهة تهديدات وتحديات تحتاج إلى تقوية مؤسسات الدولة لجعلها في موقع المفاوض القوي سواء في مواجهة الضغوط والملفات الخارجية وهي ذات طبيعة أمنية واقتصادية أو الاستمرار في استكمال حلف المصالحة الوطنية في الداخل، وهو ما يدعو للتجند العام للمساهمة الشعبية في تحقيق مكاسب أخرى للدولة الجزائرية وليس للأشخاص. وأعتقد في هذا الاطار أنّ أحداث 5 أكتوبر 1988 حاولت كسر الرصيد التاريخي للجزائريين من خلال تشويه صورة جبهة التحرير الوطني. ثم جاءت المحاولة الثانية للمس بصورة المؤسسة العسكرية خلال العشرية الحمراء لدفع السؤال من يقتل من؟ والهدف كان محاولة تشويه صورة الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني باعتباره مؤسسة فاعلة ومؤثرة في قوة الجزائر ووحدتها. واليوم وأمام اتجاه الجزائر للنظام الرئاسي يحاول البعض إضعاف المؤسسة الرئاسية من خلال تأليب الرأي العام ودعوته لمقاطعة الانتخابات. وإنني أتساءل أمام إضعاف رصيدنا التاريخي وقوتنا العسكرية ومؤسستنا السياسية الأولى.. أي مستقبل ينتظر أبناء الجزائر غير الخضوع. ولذلك فالجمهور مدعو اليوم لممارسة حقه الانتخابي، لأن التحديات التي تقف أمام المفاوض الجزائري تحتاج إلى قوة جماهيرية تجعل مؤسسة الرئاسة محمية بخيار الشعب، مما يجعلها في أفضل مواقعها التفاوضية. إنّ الواجب الانتخابي قد يرتقي أحيانا إلى مستوى المسؤولية الوطنية حينما نشعر أنّ الجزائر ومؤسساتها مستهدفة من عديد المتربصين بنا وبمستقبل شبابنا. وإذا لم تكن أداة لبناء الوطن فستكون أداة لاستراتيجيات الآخرين. الموقف القيمي إنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء قد يشغل الناس بالبحث في لقمة العيش، الأمر الذي لا يوفّر الوقت الكافي للمشاركة السياسية. ولكن الربط بين الحالة الاجتماعية والسلوك الانتخابي ينم عن خطأ في ثقافتنا السياسية، ولا بد أن نرتقي بمواقفنا من السّلم الاجتماعي إلى السلم القيمي، فالانتخاب قيمة من قيم الديمقراطية يمارسه الناس للدفاع عن خيارهم وعن وطنهم بغض النظر عن الحالة الاجتماعية. ولا أعتقد أنّ الاستقالة من الحياة السياسية والاجتماعية هي التي ستوفر السكن والعمل، وإنما يتحقق ذلك من خلال الدفع عن القيم الديمقراطية ودعم قوة مؤسسات الدولة التي تعمل على إعداد تلك البرامج، وأعتقد أنّ الجماعات المحلية وخاصة البلديات لها الإمكانية أكثر من غيرها في الاتصال اليومي بالمجتمع، ولذلك فهي مدعوة لاعتماد سياسة الأبواب المتفوحة أمام المواطنين، وتنظيم وتفعيل المجتمع المدني وجعله شريكا في صناعة قرار التنمية على المستوى المحلي، وأداة للتكوين والتثقيف السياسي لزرع القيم الاجتماعية والسياسية والمدنية، ومن ثَم نزرع ثقة المواطن فيه الذي لن يتردد في دعم خياراته والمشاركة في الحياة العامة. إنّ العزوف عن الانتخابات ليس وليد الموقف السياسي بالضرورة، ولذلك فإنّ القوى المؤثرة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والمجتمع المدني قادرة على اتخاذ الخطوات العاجلة لتحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطنين حتى لا تكون المآسي الاجتماعية فيتامينا يغذي دعاة المقاطعة. علي لكحل أستاذ بكلية العلوم السياسية والإعلام