تحيل القراءة المتأنية لكتاب فرانز فانون "المعذبون في الأرض"، إلى فكرة في غاية الأهمية، وهي أن الإنسان الخاضع للاستعمار، عاش على هامش المدينة الأوروبية، التي ولجت المجتمعات المُستعمرة حديثا، مع الغزو. وهذه المدينة الأوروبية، بقيت ممنوعة على السكان الأصليين، حرموا منها كما حرموا من كل مظاهر التقدم. تطورت الرواية مع تطور البرجوازية في أوروبا، ونمو المدن. إن ثقافة المدينة، من خلال شروطها الاجتماعية، هي التي أوجدت الرواية. بل حتى القصة القصيرة ظهرت في المدن. فكتاب "الديكاميرون" لبوكاشيو، تدور أحداثها في مدينة فلورانس الإيطالية، وتصور مظاهر الحياة الاجتماعية بها. حتى أن إميل زولا، غادر "البروفانس" وتوجه إلى باريس، بدافع من الرغبة الجامحة في كتابة الرواية. ليست الرواية البوليسية هي التي ظهرت في المدينة، كما يعتقد البعض. فأول من كتب الرواية البوليسية، هو السير أرثر كانون دويل، وكان ذلك سنة 1865. وقبل هذا ظهرت روايات عديدة.في حالة الجزائر، كان يوجد مدينتان، قبل الاستقلال. هناك المدينة الأصلية أو القصبة، وهي الفضاء المسموح للعيش فيه. وفي المقابل هناك المدينة الأوروبية التي بناها الغزاة، وهي فضاء منغلق. وبالرجوع إلى فرانز فانون دائما، نجده يقدم أحلام الإنسان الخاضع للاستعمار، وفق صورة إنسان يحلم بالسكن في المدينة الأوروبية، وتملك بيوت الأوروبيين، ونساء الأوروبيين، وسياراتهم وقاعات السينما التي أدخلوها، وغيرها من مظاهر التقدم. فهناك رغبة في الانصهار في المنظومة الاستعمارية بعد إضفاء الطابع الوطني عليها. وهذا ما يسميه ألبير ميمي في كتابه الشهير "صورة المُستعمر"، بالرغبة في التقليد، وهي فكرة خلدونية في الأساس.بعد الاستقلال، انتقلنا إلى المدينة الأوروبية. أصبحنا نسكن فيها. وهجرنا المدينة القديمة. أو بالأحرى مارسنا رمزية القتل عليها. والمدينةالجديدة، بقينا غرباء فيها، إذ أن معالمها، وطبيعة عمرانها، وحتى روحها، عبارة عن نتاج المنظومة الاستعمارية. فتكونت لدينا ما يمكن تسميته بعقدة المدينة. وعدم القدرة على "امتلاك المكان".كما عملت الدولة الوطنية، على تحطيم رموز المدينة الأصلية، بحجة أنها رموز استعمارية (وهنا تحضرني واقعة جرت في بداية الثمانينيات عندما أقدم احد الولاة بقطع أشجار عتيقة. ولما سأله أحد صحفيي جريدة "الجزائر الأحداث" عن السبب، رد قائلا "لأنها من العهد الاستعماري"). فخلقت فضاء راح يفتقد لروحه ولثقافته ولمعالمه شيئا فشيئا.وأريد الآن في حديثي عن علاقة الرواية بالمدينة أن أركز على الرواية الجديدة في الجزائر. تمتاز هذه الرواية بكونها رواية اعترافات وبوح. وكثير من الروائيين الجدد اختاروا هذا الأسلوب الروائي، للتعبير عن هواجسهم ومأساتهم. فعلوا ذلك لعدة أسباب، منها رغبتهم في التعبير عن انكسارات الذات، ومحاولة فرض فردانية، قمعتها الأيديولوجية. كما أن أسلوب الاعتراف، يعد من بين الأساليب الروائية السهلة. فالاعتراف يُجنب الكاتب تعقيدات العمل الروائي الذي يعتبر شكلا هندسيا، يقوم على الوصف الخارجي، وعلى بناء العوالم والفضاء بشكل هندسي. وهذا ما لا نجده في الرواية الجديدةبالجزائر. هناك اعترافات لا غير، وأسلوب مجرد، وتهويمات كثيرة.طبعا هناك استثناءات، لكنها قليلة. أذكر منها رواية "ذاكرة الجنون والانتحار" للروائي أحميدة العياشي التي ارتبطت بمكدرة. وكذا رواية "عتبات المتاهة" التي حركت ذاكرة مقهى "اللوتس".إن اللجوء لأسلوب الاعتراف، يجعل الكاتب منفصلا عن المكان. فهل تم هذا بوعي أو بلا وعي؟ قد يكون ذلك اختيارا لكتابة رواية واحدة أو اثنتين، أما أن يتحول هذا الأسلوب إلى أسلوب شائع، فأعتقد أن الرواية هنا موجودة في خطر. والكاتب الذي يستمر في كتابة رواية الاعتراف، ليس بإمكانه أن يجدد أسلوب الكتابة. يقول فارغاس يوسا في "رسائل لروائي شاب"، ما يلي: "يمكن لتبدل الرؤى المكانية أن تغني القصة، تكثفها، تصقلها، تلفها بالأسرار، بالغموض، وتمنحها إسقاطات عديدة". حميد عبد القادر