قلت له: بلميلود.. ألم تخبرني قبل مدة، أنك منتش نفسيا، بعد زيارة قمت بها إلى القرية؟، قال: نعم، قلت: كيف وجدت القرية؟، أريد أن أعرف نموذجا من القرية الجزائرية، فنحن الجزائريون، أصبحنا نسأل عن المدينة، ولا نسأل عن القرية، كأنها غير موجودة. قال: عدت منها، وأنا أحمل إحساسين متناقضين، في الوقت نفسه، إحساسا بالانتشاء، وقد وجدت روحي في اتساع الخلاء، ونقاء الهواء، وحلاوة الماء، وإحساسا بالحزن، لأنني وجدت الذات الحضارية لقريتي، توشك على الانطفاء، قلت له: كيف؟، قال: القرية ليست جدرانا فقط، بل ذاكرة تلك الجدران أيضا، وهذه الذاكرة هي التي تشكّل النسيج الحضاري للقرية، من عادات وتقاليد وطقوس ومحكيات وأمثال وحكم وأساطير، ما يعطي لأفرادها الشعور بالانتماء، فيبقوا فيها، وكل هذه الأمور بدأت تزول يا بوكبة، بفعل التحولات التي طرأت على الريف الجزائري بعد الاستقلال، وبفعل رحيل شطر من حاملات وحاملي هذه الذاكرة، وتهميش الشطر الذي بقي على قيد الحياة، إذ لم تعد للجدة القروية سلطة في البيت، وقد أصبح أحفادها الذين ولدوا في ظل التحولات المعروفة، يعاملونها على أساس أنها تحفة، يودّون لو أنها لا تتكلم، حتى لا تزعجهم وهم يتابعون برامجهم في التلفزيون، الذي بات جدتهم الجديدة التي لا تنام، لقد حضرت أعراسا في القرية، فلم أجد فيها ما كان يميز العرس القروي، لقد ميّعه الشباب، أو لنقل إنهم كيّفوه وفق أمزجتهم الجديدة، فأصبح مجرد فرصة للرقص والفوضى، على موسيقى ليس لها ذاكرة في المكان، ما جعل جيل الشيوخ يقاطع هذه المناسبات، مكتفيا بالتحسّر على طقوس زمان، دون أن تكون له قدرة على إعادتها، أو إعادة بعضها على الأقل، وعليه فإنه بات ممكنا أن تلاحظ بيسر اختفاء طقوس كانت تتعلق بالحرث والحصاد والدرس وجمع الزيتون وبناء بيت جديد والختان واستقبال العام الجديد والصوم والعيد والدفن، وبعض ما يقال في التواصل مع الناس، أما الفلاحة، فيا وعدي على الفلاحة، هل تصدق أنني رأيت قرويين يملكون أراضٍ خصبة، يسيل عليها الماء من غير أن يضطروا لأن يحفروا بئرا، لكنهم يشترون البصل والفلفل والطماطم والبطاطا والجزر واللفت... من سوق المدينة، حتى شاة العيد الكبير باتوا يشترونها من المدينة، فما هذا الوضع المقلوب الذي بات الجزائريون يعيشونه، المدينة التي كانت تستورد من القرية، باتت تصدر لها حتى توابل البرمة؟، إنها الاستقالة يا صديقي، ما يجعلنا أمام قرية معطلة السواعد والذاكرة، آه... نسيت أن أقول لك، إنني سألت كثيرا من البيوت هناك، إن كانوا يملكون أدوات النسيج، فقيل لي إنهم لا يملكونها، لأنهم باتوا لا ينسجون، من هذه التي بقيت تنسج في القرية، يا حسراه.. لقد ماتت الحرائر، حتى أنني وجدت منسوجات من الريف الصيني، تستعمل هناك فتساءلت، بيني وبين نفسي: كيف استطاعت منسوجات من الريف الصيني، أن تهدد منسوجات من الريف الجزائري، رغم أن المسافة بينهما لا يمكن أن تخطر على بال العجائز، بل حتى على بال بعض مثقفينا، الذين استقالوا هم أيضا من رصد التحولات في مجتمعهم، والمضاعفات التي تنتج عنها، قلت له مشاكسا: والفتاة القروية؟، أما تزال جميلة بكحلها وحنائها ووشمها؟، قال ثم تركني وانصرف: تكاد المرأة أن تكون مدار كل التحولات في التاريخ، استقالة الرجل من استقالة المرأة.