اختتمت يوم الثلاثاء 11 أوت الجاري المفاوضات غير الرسمية الأولى بين جبهة البوليساريو والمغرب، والتي جرت بإشراف من المبعوث الشخصي للأمين العام، الأمريكي كريستوفر روس، في سرية تامة، وبعيدا عن أعين وآذان الإعلام بالرغم من المتابعة الكبيرة التي أولتها وكالات الأنباء العالمية لهذا الحدث. المفاوضات جاءت بعد حوالي سنة ونصف من الجمود عقب فشل اللقاء الرابع من مفاوضات مانهاست والذي انتهى بفشل الوسيط الأممي السابق، الهولندي فان والسوم، في تحقيق شيء بسبب ميوله نوعا ما للطرح المغربي وعدم حفاظه على الحياد اللازم لكل وساطة أممية جدية، ولكن بالأساس بسبب محاولة استبعاده إمكانية استقلال الصحراء الغربية، متحديا بذلك ميثاق الأممالمتحدة الذي يصنف الصحراء الغربية كبلد لا يتمتع بالإستقلال له حق غير قابل للتصرف في تقرير المصير. * ترأس وزير الخارجية بدلا من الداخلية، لوفد بلاده يعني أن المغرب قد أدرك أخيرا أن عليه الإعتراف بأن النزاع في الصحراء الغربية هو نزاع دولي *الرباط فشلت طيلة 34 سنة في فرض حل عسكري، أو في إقناع الشعب الصحراوي بقبول الأمر الواقع، كما أنها لم تفلح في إقناع دول العالم بالإعتراف للمغرب بالسيادة على البلد * يبدو أن روس قد نجح في فرض أسلوب تعامل جديد بين الطرفين، يمنع تبادل التهم، بل وتشويه الأمور كما دأبت آلة الدعاية المغربية عقب كل لقاء مع الطرف الصحراوي والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، ماهو جديد هذه الجولة من المفاوضات المباشرة، "غير الرسمية"، كما اختار روس تسميتها؟ وهل حصل أي اختراق في مواقف الطرفين؟ أو على الأقل هل هناك جديد يبرر كل هذا الحبر الذي أريق لتغطيتها، والذي حاول اقتناص أي تصريح، أو حتى تلميح، لطرح قراءات صبت كلها ربما عن طريق الصدفة، أو بسبب فعل تأثير " الدومينو" في خلاصة أن الطرفين مرتاحان نوعا ما لهذا اللقاء، ولكن طبعا كل من وجهة نظره التي لا زال لم يتزحزح عنها قيد أنملة. إن أهم ما ميز هذه المفاوضات المباشرة غير الرسمية، هو أنها، حسب أعضاء الوفد الصحراوي كما حسب وزير الخارجية المغربي، الذي ترأس وفد بلاده في هذه المفاوضات، قد تميزت بمناقشة الكثير من القضايا الجوهرية وبعمق، وطرح الطرفان كل ما بجعبتيهما من قضايا، ومواقف، وآراء. كما تميزت باتفاقهما على أن المفاوضات تمت في جو جديد، وهادئ، وهذا اتفاق لم يسبق له أن تحقق في أي جولة سابقة بين الطرفين بتاتا حسب علمنا. وأخيرا تميزت بإجماع الطرفين على استعدادهما العودة مجددا لطاولة المفاوضات، التي ذكر روس في مناسبات عديدة أنها تطبيق للقرار 1871 الذي يدعو طرفي النزاع للتفاوض ب"دون شروط مسبقة" لإيجاد "حل سياسي عادل ومتفق عليه يؤدي إلى تقرير المصير" للشعب الصحراوي. الجديد بالنسبة للطرف المغربي، هو ترأس وزير الخارجية المغربي، الفاسي الفهري، لوفد بلاده المفاوض، وهو حسب علمنا معطى قد يفهم منه أن المغرب قد أدرك أخيرا أن عليه الإعتراف بأن النزاع في الصحراء الغربية هو نزاع دولي. وقراءتنا هذه لترأس وزير الخارجية للوفد المغربي، تنطلق من حقيقة أن رئاسة الوفود المغربية المفاوضة كانت دائما مهمة وزراء الداخلية المغاربة، منذ البصري، وهو تقليد مغربي مقصود يريد الإيحاء دائما أن القضية شأن داخلي لا أقل ولا أكثر. إذا غياب وزير الداخلية المغربي هذه المرة وترأس وزير الخارجية وفد بلاده إشارة إلى خضوع المغرب، ربما بضغط من روس، للاعتراف بطبيعة النزاع، واعتراف كذلك بأن جبهة البوليساريو هي المحاور الوحيد والشريك الحقيقي لتحقيق السلام تحت إشراف الأممالمتحدة. أمر جديد آخر هو تعبير طرفي النزاع عن ارتياحهما النسبي عقب انتهاء المفاوضات، وهو أمر قد يكون ناتج عن اتفاق مع المبعوث الخاص، كريستوفر روس، الذي يبدو أنه قد نجح في فرض أسلوب تعامل جديد بين الطرفين، يمنع تبادل التهم، بل وتشويه الأمور كما دأبت آلة الدعاية المغربية عقب كل لقاء مع الطرف الصحراوي. وسيلاحظ الجميع أنه ولأول مرة يتحدث المغاربة بلهجة متزنة بالرغم من تمسكهم بالحكم الذاتي، وبالرغم من إصرارهم على التعبير عن رفض استفتاء تقرير المصير. اتزان في التصريحات، قد يشير كذلك إلى أن طرفي النزاع أحسا فعلا بأن الوسيط الأممي يحظى بدعم قوي، وهو الدعم الذي عبرت عنه الإدارة الأمريكية، بعدة طرق كانت إحداها رسالة أوباما الشهيرة لملك المغرب والتي عبر فيها عن دعم الولاياتالمتحدة لحل عادل في إطار الأممالمتحدة، ودعمها لروس كوسيط، دون أن تذكر ولو تلميحا المقترح المغربي. وذكرت مصادر دبلوماسية أمريكية نقلت عنها جريد وورلد تريبيون تأكيدها أن إدارة أوباما تخلت عن دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي، وتدعم المبعوث الأممي بكل ثقلها السياسي. نفس الإستنتاج يمكن استخلاصه من الطريقة التي تعاملت بها فرنساوإسبانيا مع المفاوضات، حيث عبر البلدان عن دعمهما لجهود روس والأممالمتحدة، دون ذكر المقترح المغربي، وهو ما يؤكد جدية الوسيط الأممي في التحكم في العملية بعيدا عن التأثيرات الخارجية والدعائية التي كانت تسبقها أو تصاحبها في التجارب السابقة، وهو ما قد يشكل معطى إيجابيا جديدا، وما يفسر تصريح الطرف الصحراوي على الأقل بأن هناك أسلوبا جديدا وطريقة جديدة لإدارة المفاوضات. ويكفي الرجوع إلى تصريحات البلدين الأوروبيين لملاحظة حقيقة هذا المعطى، حيث قال متحدث باسم الخارجية الإسبانية، نقلت عنه وكالة الأنباء المغربية نفسها قوله أن: "إسبانيا تدعم جهود المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة السيد كريستوفر روس، لعقد اجتماعات من أجل تعزيز الثقة وخلق مناخ إيجابي للحوار"، وأن: "من شأن هذا الاجتماع أن يساهم في إحراز تقدم نحو إيجاد حل لمشكل الصحراء وفي إطار قرارات الأممالمتحدة". نفس الشيء بالنسبة لفرنسا، التي أعربت يوم الاثنين، دائما حسب وكالة الأنباء المغربية، حيث صرح متحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية "إننا ندعم كريستوفر روس في هذه الخطوة" مضيفا أن هذه المفاوضات المباشرة وغير الرسمية ستمكن أيضا من "التحضير لجولة خامسة من المفاوضات الرسمية من أجل التوجه نحو حل سياسي عادل، ودائم ومقبول لدى جميع الأطراف في إطار الأممالمتحدة". إذا، البلدان اللذان يعتبرهما المغرب حليفين قويين له التزما بخطاب متوازن، يؤكد بالأساس على دور الأممالمتحدة كإطار للحل، ويتفادى أي ذكر للمقترح المغربي. وهذا بخلاصة دليل إضافي على الصرامة التي تعامل بها كريستوفر روس من أجل التحكم في الظروف العامة المصاحبة للمفاوضات. ونصل الآن إلى مضمون المفاوضات نفسها، فحسب المعلومات التي تمكنا من تحصيلها من مصادر مطلعة مختلفة، فقد سطر كريستوفر روس تحت حقيقة أن الوضع القانوني للصحراء الغربية لا زال لم يحدد بعد، أي أن البلد لا زال لا يتمتع بالإستقلال، أو بكلمات أكثر وضوحا، لا زال مستعمرا، وهذا يعني أن الوسيط الأممي أراد أن يذكر المغرب بأن الأممالمتحدة لم تعترف بعد له بالسيادة على البلد، وأن القضية لا زالت مصنفة في خانة قضايا تصفية الإستعمار. كما أنه أوضح للطرفين من جهة أخرى أسلوب عمله، ومقاربته. أما بخصوص طرفي النزاع فقد طرحا كل بدوره آراءه وانشغالاته ورؤيته للحل، حيث جدد الفاسي الفهري التأكيد على تمسك بلاده بالحكم الذاتي كحل وحيد ممكن التطبيق، مشيرا إلى استحالة تطبيق استفتاء تقرير المصير، وللتذكير فهذا هو نفس الموقف الذي عبر عنه ملك المغرب مؤخرا في خطابه للعرش، الذي جاء أياما معدودات قبل جولة المفاوضات هذه. بل أن الملك مضى أبعد من ذلك بتلويحه بعزم بلاده المضي قدما في تطبيق نظام للجهوية في الصحراء الغربية في مسعى لفرض أمر واقع استعماري جديد. وبطبيعة الحال حاول الفاسي الفهري في تصريح لوكالة الأنباء المغربية أن يفسر القرارين الأخيرين لمجلس الأمن (1813 الصادر في أبريل 2008 والقرار 1871 الصادر في أبريل 2009) حسب هواه، مدعيا أنهما "يعطيان التميز للمبادرة المغربية للحكم الذاتي"، وهذا ادعاء مردود عليه ويكفي قراءة نص أحد القرارين لإدراك ابتعاد ادعاء السيد الفاسي الفهري عن الحقيقة، فالقراران يجددان التأكيد على كل قرارات الأممالمتحدة، ويؤكد القرار الأخير مثلا أن الغاية من المفاوضات هي: "التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين، بما يكفل لشعب الصحراء الغربية تقرير مصيره في سياق ترتيبات تتماشى مع مبادئ ميثاق الأممالمتحدة ومقاصده". وبطبيعة الحال فرغبة المغرب في فرض حكمها الذاتي المقترح من جانب واحد، والمخالف للقانون لأنه مقترح من دولة لا تمتلك السيادة على البلد، لا "يكفل لشعب الصحراء الغربية تقرير مصيره"، ولا "يتماشى مع مبادئ ميثاق الأممالمتحدة ومقاصده". الطرف الصحراوي أكد على جملة من القضايا، بدأها بتذكير الجميع أن القضية قضية تصفية استعمار، وهي بالتالي تقع تحت طائلة "إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة" الذي اعتمد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 (د-15) المؤرخ في 14 ديسمبر 1960، والذي ينص في مادته الثانية أن: "لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي"، وفي مادته الخامسة: "يصار فورا إلى اتخاذ التدابير اللازمة، في الأقاليم المشمولة بالوصاية أو الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، أو جميع الأقاليم الأخرى التي لم تنل بعد استقلالها، لنقل جميع السلطات إلى شعوب تلك الأقاليم، دون أية شروط أو تحفظات، ووفقا لإرادتها ورغبتها المعرب عنهما بحرية، دون تمييز بسبب العرق أو المعتقد أو اللون، لتمكينها من التمتع بالاستقلال والحرية التامين". كما ذكر الوفد الصحراوي أن جبهة البوليساريو هي حركة تحرير تكافح من أجل استقلال الصحراء الغربية، وأنها بقبولها بالإستفتاء قدمت تنازلات كبيرة من أجل تحقيق السلام رغم قناعتها بأن المغرب لا يملك أي حق في الصحراء الغربية، وأن الإحتلال المغربي غير شرعي، وأول هذه التنازلات يكمن في القبول بالإحتكام إلى الشعب الصحراوي، المالك الشرعي الوحيد للسيادة على الصحراء الغربية، ليختار بين ثلاثة خيارات هي: الحكم الذاتي أو الانضمام أو الاستقلال. من جهة أخرى أثار المفاوضون الصحراويون قضية حقوق الإنسان بالصحراء الغربية، مطالبين الأممالمتحدة بتحمل مسؤولياتها في حماية المواطنين الصحراويين من القمع المغربي، ومذكرين الجميع بضرورة الوصول إلى حل سياسي وديمقراطي يعطي الكلمة للشعب الصحراوي. كما أثاروا قضية الثروات الطبيعية، والاستغلال المغربي الممنهج لها. وفي هذا الإطار، ذكر المفاوضون المغرب أن سياسته لفرض الأمر الواقع الإستعماري قد أثبتت فشلها تماما، حيث أن الرباط بقصد أو غير قصد من المنتظم الدولي قد أعطيت فرصة كاملة طيلة 34 سنة دون أن تنجح في فرض حل عسكري، أو في إقناع الشعب الصحراوي بقبول الأمر الواقع بدليل أن الرفض الشعبي للإحتلال هو السائد في المناطق المحتلة، كما أنها فشلت في إقناع دول العالم بالإعتراف للمغرب بالسيادة على البلد. وفي المقابل فإن أزيد من 80 دولة تعترف بالجمهورية الصحراوية كسلطة شرعية وذات سيادة على الصحراء الغربية. وبالنسبة للمقترح المغربي أوضح المفاوضون الصحراويون أنه مقترح ميت، وغير قابل للتطبيق لأنه غير شرعي أولا، ومتجاوز ومرفوض من طرف الشعب الصحراوي، وأن البوليساريو مستعد لمناقشته فقط كخيار ضمن ثلاثة خيارات في استفتاء لتقرير المصير. وهذا الموقف هو تذكير للأمم المتحدة كذلك بأنها لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تساهم في شرعنة احتلال بلد لبلد آخر بالقوة، وأنها مطالبة قبل كل شيء بالدفاع عن ميثاقها ومبادئها ومصداقيتها التي أصبحت على المحك. إذا، هذه هي عموما الخطوط العريضة لهذا اللقاء، الذي لم يحقق أي شيء يذكر بالنسبة لإيجاد الحل، بل لم ينجح في إيجاد " أرضية مشتركة" للإنطلاق نحو الحل، كما قال أمحمد خداد في تصريحاته للصحافة. إلا أن اللقاء من جهة أخرى، نجح في تسطير مبادئ عامة للمفاوضات بين الطرفين، وكشف بالخصوص قدرة كريستوفر روس على إدارة مفاوضات مباشرة بين طرفي النزاع، وبحضور كل الأطراف المعنية من قريب أو بعيد بالنزاع، حيث لم يكتف بتسجيل الدعم الفرنسي والإسباني لجهوده بل ضمن كذلك حضور وفدين مراقبين من الجزائر وموريتانيا مشكلين من مسئولين رفيعي المستوى وعلى قدر كبير من الإطلاع بالقضية، وهو ما يترجم نية روس الجادة في البحث عن الحل. وتبقى موازين القوى، ونجاح كل طرف في لعب أوراق الضغط التي بحوزته هي ما قد يميل كفة المفاوضات من طرف لآخر. بقلم: ماء العينين لكحل * أمين عام اتحاد الصحافيين والكتاب الصحراويين