لماذا الآن؟ سؤال لطالما طرح على الأخصائيين في مجال تكنولوجيات المعلومات، في محاولة لإيجاد ردّ صريح وواضح حول خلفية التحركات في مجال الاتصالات أمام موجة الانحرافات الأخلاقية التي اجتاحت عالم الانترنت بالإضافة إلى تنامي الجريمة الإلكترونية بشكل فاضح، ليبقى الهاجس الأكبر لكل الأمم هو البحث عن الآليات الكفيلة بردع المتسببين في هذه الظاهرة السلبية الجديدة. والجزائر كونها طرفا في المعادلة الكونية لا يمكنها الخروج عن القاعدة العالمية لمحاربة الجريمة الإلكترونية والعمل على حماية الأجيال القادمة من خطر الشبكة العنكبوتية، فكّرت هي الأخرى في طرائق الدفاع الذاتي أمام هذه الظاهرة، فحسب التصريح الأخير الذي أدلى به وزير البريد وتكنولوجيات الإعلام حميد بصالح على هامش الاحتفالية باليوم العالمي للاتصالات، فإنّ وزارته وبالتنسيق مع عدد من الخبراء في الحواسيب والإنترنت في الجزائر، تعمل على وضع اللمسات الأخيرة لإصدار ميثاق وطني '' لتنظيم مقاهي الانترنت في الجزائر واستعمال الانترنت بغرض حماية الأطفال من الانحراف واستغلالهم من قبل شبكات إجرامية عبر الشبكة العنكبوتية''. حماية الأطفال من الانحراف، إذن هو بيت القصيد الذي يصبو الجميع إلى الوصول إليه، لكن لا يتحقق في اعتقادي ذلك بمجرّد إصدار ميثاق يردع مخالفيه فحسب، لأنّ المجال مثلما ذكرناه في أعداد سابقة أعمق وأشمل، فالشبكة العنكبوتية ليست ظاهرة مثلما يعتقده البعض، بل هي خفية لا يمكن الوصول إلى حلّ طلاسمها بسهولة. وبما أنّ الأنترنت أصبحت طرفا لصيقا بالحياة الاجتماعية وعلى كل المستويات، لم تعد هناك حاجة إلى التكتم والتستر عن مخلفاتها السلبية بشكل خاص، بما أنّ الأمر وحسب ما أدلى به وزير القطاع يتعلق بالأطفال وضرورة حمايتهم من مغبة الآفات التي تهدّد جوانبها الأخلاقية وهو ما يدعو بالضرورة للتخوف من تفشي هذه الظاهرة المشينة. وبما أنّ الوزارة الوصية قد أخذت على عاتقها مسؤولية ردع المخالفين للميثاق الذي سيصدر عن مصالحها في القريب العاجل، أعتقد أنّه كان لزاما على أصحاب هذه الفكرة إشراك باقي القطاعات التي لها علاقة مباشرة مع الطفل تحديدا والشباب بشكل عام، على غرار وزارة التربية الوطنية وزارة الشباب والرياضة والكشافة الإسلامية الجزائرية...الخ. فهذه القطاعات إن توحدت جهودها ستصل إلى المبتغى لا محال، فالمدرسة مثلا تلعب دورا فعالا في إرساء القواعد الأخلاقية وترسيخها لدى الطفل، لتشكل بذلك منبرا أخلاقيا مهما في كنف الحياة الاجتماعية عامة، ولكن يبقى دوما وأبدا دور الأسرة في العمل التربوي هو النبراس واللبنة الأولى التي تجسّد معنى الأخلاق والتربية لدى أبناءنا ومنه لا يجوز إطلاقا تهميش دور الأسرة في هذا المجال بالذات، وفي نفس السياق نقرأ بين سطور التصريح الذي أدلى به بصالح عزم مصالحه على ردع المساهمين في التوجيه السيئ للأطفال خاصة بمقاهي الأنترنت ودور الشباب، وعليه وجب تحديد مهام ومسؤوليات مالكي مقاهي الأنترنت ومسيري الفضاءات الرقمية بدور الشباب، وهنا أيضا نستوقف القارئ الكريم لنبرز حقيقة ثانية والمتمثلة في الجوانب التنظيمية وكيفيات التعامل مع ملفات طالبي الإعتمادات في هذا المجال، فمن الضروري إعادة النظر في هذه النقطة الجوهرية، باعتماد مقاييس ومعايير أكثر صرامة وموضوعية. الحديث اليوم عن ميثاق تنظيم مهنة أصحاب مقاهي الانترنت يخلو هو الآخر من انعكاسات سلبية أخرى تحددها معايير تجارية، فالمراقبة لن تشكل حتما عائقا أمام هؤلاء (التجار) خاصة في ظل نقص الكم اللازم من المراقبين والمفتشين على مستوى وزارة البريد وتكنولوجيات الإعلام أو حتى على مستوى اتصالات الجزائر، ومن جهة أخرى اعتماد قانون منع الأطفال من ارتياد مقاهي الانترنت ليلا من شأنه الحد قليلا من الظاهرة لكن لا يعني ذلك تطبيقها بالشكل المرجو، فمن الضروري تشديد المراقبة على هذه المقاهي من جهة وتحديد مهام المراقبين وإخضاعهم هم الآخرين للمراقبة للحيلولة دون تفشي آفة أخرى وهي ''الرشوة'' لتفادي الضرر.. كما أنّ دور الأسرة مرة أخرى جد مهم في مثل هذه الأمور، فالطفل لا يمكنه الخروج من بيته لوحده دون موافقة والديه، ففي هذه الحالات يجب إلقاء اللوم عليهما وليس على الطفل الذي كثيرا ما يذهب ضحية الآخر.. إنّ الميثاق الذي سيدخل حيّز التنفيذ خلال الشهر المقبل هو نتاج تخوفات من المستقبل القريب، لكنه أيضا انعكاس لمدى التسيب الذي شهدته بعض القطاعات المعنية بهذا الشأن، ومنه لا يمكن فصل الأول عن الثاني في مثل هذه الظروف التي لا تننبئ بالخير، بقدر ما تزيد من مخاوفنا، حتى وإن كان الدواء متوفر اليوم من ردع وتحسيس وتوعية وتوجيه صحيح على كل المستويات.