لا حديث اليوم في الشارع الجزائري سوى عن المنتخب الوطني لكرة القدم وعن مونديال جنوب إفريقيا.. لا حديث اليوم عن السياسة ولا عن الثقافة ولا حتى عن القدرة الشرائية وتدني المستوى المعيشي بالبلاد..لا حديث اليوم عن الخلافات بين الإخوة الأعداء بداخل قبة البرلمان ولا حديث عن الصيف والبحر والعطلة السنوية..والأدهى والأمر أنّه لا حديث اليوم عن امتحانات الباكالوريا ولا امتحانات أخرى.. ببساطة تمّ تأجيل كل ذلك إلى ما بعد المونديال! كرة القدم، أصبحت اليوم سيدة العالم من دون منازع، جامعة الأمم وحاضرة الحواضر، رافعة لواء السلام وحاملة مشعل الأخوة، فالعالم هذه الأيام أصبح يتحدث لغة واحدة: لغة كرة القدم. ما من شك أنّ منافسة كأس العالم أصبحت تستقطب إليها كبار الساسة والنجوم، كما أنّها غدت ملهمة الأمم في كل حدب وصوب، فالكرة الأرضية وحّدت لغتها حسب منطق الكرة المستديرة، فلم يعد هناك مجال للحديث عن القاعدة وضرباتها الموجعة بخاصة في أفغانستان والعراق، ولم يعد هناك حيّز مكاني للحديث عن الصراعات العرقية بإفريقيا الوسطى، ولم يعد هناك مجال للحديث عن الأسلحة النووية وإمكانية حظرها وردع إيران وكوريا الشمالية لحثهما على ترك مشروعهما النووي والالتزام بالقرارات الأممية وتحديدا مجلس الأمن الدولي! كأس العالم وضعت الجميع بجنوب إفريقيا تحت عنوان واحد: العالم يتحدث ''جابولاني'' ومعناها ''الحرية''. الجزائر لم تخرج عن القاعدة العامة، ودخلت هي الأخرى معترك المونديال من بابه الواسع، خاصة وأنّها ممثلة في هذه المنافسة العالمية بمنتخبها الأول الذي أعاد للجزائريين الثقة بتأهله وزرع الأمل من جديد في نفوسهم، وهو ما يعكس سرّ الحديث عن المونديال وأطواره أينما حللت وحيثما وجدت، الجزائريون يتنفسون ويشربون ويأكلون المونديال. 35 مليون جزائري مشدود النظر والقلب إلى جنوب إفريقيا، ينتظر الأخبار السعيدة التي سترفعه إلى عالم البرزخ، لكن...؟ من لاحظ وعن كثب حركة المرور يوم الأحد الماضي في حدود منتصف النهار بالشوارع الرئيسية للبلاد، يخيّل له حتما أنّ ثمّة نكبة قد حلّت بالبلاد وأجبرت الجميع على الدخول إلى البيوت، فشوارع العاصمة على سبيل الذكر لا الحصر، أوحت لزائريها أنّها مدينة شبح، فلا سيارة تجول ولا دكان مفتوح ولا حتى أطفال يلهون، كل ما تصادفه إما مجموعة قطط متشردة تهيم على وجهها بحثا عن قوت يومها أو بعض السيارات المسرعة، فالسكون طبع الشوارع والأزقة وأعطى العاصمة وجها مغايرا تماما لما كانت عليه. كل شيء يوحي إلى أنّ عالم الشغل قد توقف ومعه الدراسة والامتحانات وحتى الفعل السياسي فقد عرف توقفا إلزاميا لفسح المجال أمام عشاق الكرة المستديرة والمنتخب الوطني الجزائري، للتعبير عن أحاسيسهم دون قيد أو شرط. الأنظار إذن توجهت صوب جنوب إفريقيا، لتشارك القبائل الأحد عشرة المشكّلة لدولة جنوب إفريقيا أفراحها، وحتى الرؤساء والقادة لم يضيعوا على أنفسهم فرصة المشاركة في حفل الافتتاح، لأنّهم يدركون تماما قيمة هذه اللعبة ومدى مساهمتها في تحديد مسار سياسات بلدانهم، ودفع الرأي العام بها إلى تغيير وجهة آرائهم والاهتمام فقط بما يدور فوق المستطيل الأخضر. إذن كرة القدم أجبرت الساسة والحكام والقادة والملوك الدخول في عطلة إجبارية، فالعالم توقف عن الحركة وفسح المجال لبصره..العالم اليوم يتحدث بأسماء نجوم مغايرين تماما لنجوم مهرجان كان الأخير ولا لنجوم هوليوود، إنّهم نجوم من نوع آخر، حضروا للمونديال من أجل الإمتاع والاستمتاع، أصبحت صورهم منتشرة عبر كل القارات، فالجميع يهتف باسم نجمه المفضل، فهذا يشجع زياني وذاك ميسي والآخر كاكا والرابع تشافي وخامس روني وهكذا دواليك... "جابولاني'' الكرة الجنوب إفريقية وحدت شعوب العالم، وأعطت المونديال بعدا كونيا، فأدخلت البهجة والفرحة إلى القلوب وصنعت الفرجة في الأزقة والشوارع، لكنّها بالمقابل أمدّت المستشفيات بآلاف المناصرين ضعيفي القلوب ورهيفي الأحاسيس. بالمختصر المفيد وحّدت الكرة ما عجزت عنه السياسة، وأعطت المنافسة العالمية الكروية بعدا إنسانيا، وهو الأمر الذي استعصى على أولي الحل والربط في بلدانهم، وما زاد في جمال الحدث وعالميته، احتضان جنوب إفريقيا الأرض المحررة من الأبارتيد بفضل جهود الزعيم الروحي نلسن مانديلا، لهذه المنافسة الهامة، ولأول مرة فوق أرض إفريقية منذ بداية المونديال عام .1930 " جابولاني'' حررت العالم من قيود السياسة والحديث عن الحروب والنزاعات والأزمات المالية والديون، وأمدته بجرعة من أكسجين الحياة ولو لمدة شهر واحد فقط.