حسام زهدي شاهين؛ هو الأسير الفلسطينيّ الكاتب، أو الكاتب الفلسطينيّ الأسير، لم يترك للسجّان ولا للسجن فرصة الوصول لإحباط كينونته الوطنية والفكرية والفلسفية، أو العبث فيها. فقد بقي حرّا طليقًا يتجول على أرض وطنه الحبيب، الذي ضحى بعمره وشبابه دفاعًا عنه، وهو يصطفّ إلى جانب عظماء شعبه من الأسرى الأبطال الذين سطروا، فرادى ومجموعات، أسمى آيات البطولة والفداء؛ إذ حوّلوا الأسْر إلى جامعة، بل أم الجامعات، عندما طوّروا أنفسهم واصطفوا في طوابير العلم، يقوم كل منهم بدور المعلّم والمتعلم، وصولًا إلى أعلى الشهادات والمراتب العلمية التي يصلها غيرهم ممن هم خارج الأسّر. هذه هي الوجبة الفكرية "الدسمة" الثانية التي يدعوني عليها الأسير "حسام شاهين"، وهو يفكر، ويتفلسف ويكتب سيرته؛ فقد كانت الوجبة الأولى روايته "زغرودة الفنجان"، التي لا تزال تفعل فعلها في وجداني السياسي والأمني والاجتماعي كلما تذكرتُ مقاطعها ومشاهدها وما فيها من تفاصيل. وكم كانت الرواية، بالرغم من أنها باكورة إنتاجه الأول وبدايات تجربته الروائية، ذات أثر في قارئها! فما بالك عندما يكبر الكاتب خمس سنوات وتكبر معه تجربته ويتجلى نضجه الكتابيّ على الورق! فقد تواصلت معي "نسيم" الشابّة اليافعة التي نذرت نفسها لمتابعة شقيقها "حسام"، وتلمّس حاجاته واحتياجاته، للحد الذي يجعله لا يرى قضبان السجن ولا جدرانه الصلبة ولا أسيجته المتعددة المراحل؛ فهي تحرص كل الحرص على أن تمسك بيد حسام وتتجول معه في شوارع الوطن وأزقته، وترسم له بالكلمات ابتسامات أطفال فلسطين وعكازات شيوخها. نسيم من ذلك الصنف النخبوي من أبناء فلسطين وبناتها الذين يشيعون الأمل في جنبات الزمان والمكان، مهما اشتدت ظلمة الليل وحلكته. لنعود إلى جديد حسام الأدبيّ، إنه "رسائل إلى قمر"؛ وقمر هذه هي آخر طفلة عاش معها وعايشها قبل اعتقاله. وهي ابنه صديقه ورفيق دربه الكفاحيّ، وقد دأب حسام على الكتابة إلى قمر- الطفلة، بلغة الكبار لا بلغة الصغار؛ وكأنني ألمح في ذلك أن حسامًا صاحب بصر وبصيرة تعانق السحاب؛ طموحاً ونظرة للحياة. كما هو حال أي ناقد أدبي، وجدتُني اتوقف عند الغلاف، واتفقد سيميائياته المختلفة، التي تبدأ بإضافة "شظايا سيرة" كعنوان فرعي مساند للعنوان العريض، وكأن "حسام" ينبئ القارئ عن خبايا وخفايا بين السطور تشي بالسيرة الذاتية لهذا الأسير الذي اعتقل عام 2004؛ في أوج انتفاضة الأقصى التي اجتاحت فلسطين، وأربكت الشرق الأوسط بأكمله، وهو طالب جامعي وقائد ميداني ومقاتل صلب، صمم لنفسه دور حامي مجتمعه، والحريص على أبنائه وبناته، والمقاتل دفاعًا عنه. ثم تأتي السيمياء التي لا بد منها؛ وهي ما يشير إلى السجن من خلال القضبان التي يقبض عليها الأسير بقوة واقتدار وعنفوان وتحدٍ للاحتلال وباستيلاته. ولم يغادرنا الغلاف قبل أن يوحي للقارئ، ويؤكد له، أن الرسائل إلى "حبيبته قمر" وإلى أبناء جيلها، ليست أوامر وتعليمات ذات قدسيّة لا يجوز محاكمتها أو القفز عنها، وإنما جعل "حسام" حرية الاختيار والانتقاء هاديًا ودليلًا للأجيال القادمة، لا يجوز التنازل عنه أو العبث فيه؛ إذ يقول لقمر (وجيلها): خذي منها ما يحلو لك، وأتركي الباقي لمن يريد! أما النصوص أو السرديّات، أو الرسائل فهي (57) نصَّا تتوزع على (221) صفحة من القطع المتوسط، لكل منها عنوانها المستقل وكينونتها الكاملة؛ غير المتواصلة مع غيرها، إلا بقدر ما من توظيف بعض الأحداث. كما أن الكاتب اجتهد في توزيع نصوصه هذه على (7) محطات. وفي كل عنوان من تلك العناوين تجد أن هناك سرًّا كامنًا خلفه، بدءًا ب "مدخل"، إذ يدعو فيه "حسام" إلى الانفتاح، ويرفض تقييد العقل الذي لم يصيغه الإنسان لنفسه. ولم يفته أن يوضح بأن ذلك لا يعني تغييب الضوابط الإنسانية والأخلاقية التي تنظم علاقة الإنسان بمحيطه الاجتماعي. وعندما تلج إلى المحتوى، وبعد الإهداء إلى أمه وإلى "قمر" وشقيقته "نسيم"، نجد أن الكاتب المقدسي محمود شقير، بفتح هذه الرسائل بالتعريف بالكتاب، ويبوح عن بعض أسراره وخفاياه، دون أن يتجاوز الكاتب والحديث عنه وعن فلسفته في الحياة. يستهلّ الكاتب المحطة الأولى من رسائله بنصّ يحمل عنوان "الرسالة في حياة الأسير". وهنا، توقفتُ معمقًا، لما وجدتُه في هذه السرديّة من عمق في التحليل وتجليات في الفكر والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي. فقد كانت الرسالة، عبر التاريخ، ذات أثر بالغ في وسائل التواصل، وهي التي كانت تحرك الجيوش وتشعل الحروب أو تخمدها. وتكمن ذروتها في "الرسالات" السماوية الثلاث بين الخالق والبشر. أما بالنسبة للأسير، فللرسالة ذات أهمية قصوى لما تحمله من مضامين فكرية وإنسانية. وأنها تلعب دورًا ثلاثيّ الأبعاد في حياة الأسرى؛ فهي لا تقتصر على نقل الأخبار بين المرسل والمستقبل، وإنما توفر الإحساس بالاستمرارية بينهما، وهي كما يقول حسام: البيت المعنوي الذي يعيش فيه الأسير، وفي الرسالة كل ما في الحياة، مضافًا إليها فانتازيا الحياة والرومانسيّة، وفيها علاج روحيّ تساعد الأسير على تخطي التوترات التي تعتريه في عزلته، وهي بناء وجدانيّ إنساني يتم تشييده بالكلمات. ويذكرّنا "حسام" بأحد أنواع الرسائل وهي "الكبسولة" التي تنقل بسريّة تامة لأهميتها القصوى ولسرية محتواها. ومما يدلّل على أهمية رسائل الأسرى ودورها في رفع معنوياتهم وصمودهم، ما يقوم به الاحتلال-السجّان من بحث وتقصٍّ عنها من أجل الوصول لها والعبث فيها وسبر غورها، لعله يجد فيها خيطًا يقود إلى التعرف على كنه الأسير وميوله واتجاهاته وطرائق تفكيره، ومدى ارتباطه بمجتمعه وأسرته. وأما العناوين الأخرى، في هذه المحطة، فلكل عنوان دلالاته وسيميائياته التي تشي بنصّ هادف مشبع بالفكر والفلسفة والرأي الراجح. ففي نص "أدوات"، نجد الفانتازيا ذات الرمزيات والدلالات التي وظفها الكاتب وجعل لكل أداة منها دورها في الحياة؛ مثل: "سباط" صديق الطبيعة، وهو الذي يحمي قدم الإنسان من الكدمات والإصابة وله عديد من الأصدقاء والصديقات داخل الوطن وخارجه. و«طبيعة" تحافظ على توازن البيئة وتحميها، و«كوارث" هي عدو لكل شيء و«نسمة" التي تدرس العلوم السياسية في جامعة القدس. يؤنسن "حسام" هذه الأدوات ويجري حوارات بينها، يمرر من خلالها أفكاره ورؤاه في عديد من القضايا، كحقوق المرأة والبيئة، والمفاهيم الخاصة بالوطن والانتماء له والتضحية من أجله. وتحت عنوان "خارج السياق" يصف "حسام" حالة خلافية بينه وبين "سبتي" أحد زملائه، يمر من خلالها حكمة جميلة "الانغماس في حب "الأنا"" يحررها من احتياجات "النحن""، ويستمر في معالجة هذا الخلاف تحت عنوان "انتقاص الكلام" الذي تبين من فحواه أن "سبتي" غاضب مما جاء في أدوات لا سيما "سياط"، مما أدى إلى إيقاف الاستمرار في مشروع "أدوات" ليعلن الكائن عن التوقف، قائلاً: "الفكرة لم تمت لكن الإلهام مات: الإلهام هو روح الفكرة". ثم ينطلق في عناوين: "باكوره حلم"، و«شظايا"، و«مرحلة"، و«ذاكرة"، و«محاولة"، و«غضب"، و«مكاشفة". وفي كل منها نجد الكاتب وقد أعاد محاكمة عديد من المفاهيم والمصطلحات وأعاد تعريفها والتوقف عندها، كالزمن، وتوارث القيم بين الأجيال، والصبر عند الغضب، وعلاقة الأسير بجدران السجن التي يواجهها بالأمل ويقتل وحش اليأس، ويرى في الذاكرة رصيد تجربة الماضي. ويستهل المحطّة الثانية بنص "أبو الوطنية الفلسطينية" ليدخل في استذكار علاقته، وهو طالب، بياسر عرفات في الذكرى التاسعة لرحيله، الذي كان يبدي اهتمامًا مباشرًا بالواقع الطلابي، ويورد حادثة طريفة تتعلق بآخر انتخابات طلابية شارك فيها. وفي نص "أفكار" يعالج أزمة "القيل والقال" التي تفتك بالمجتمع وفي "وسيلة وهدف" يتحدث عن علاقة الإنسان بوطنه. مؤكداً أن خيانة الوطن انطلاقاً من فكرة الاغتراب، قد تؤدي إلى خيانته من حيث المبدأ، وأن المحتلين عاجزون عن رؤية الرابطة السرية التي تجمع الإنسان بوطنه. وتتوالى العناوين في المحطات الأخرى. ففي المحطة الثالثة يبدأ، ب "أدوات أخرى" و«الكتاب"، ففي الأولى يتناول الفأس واستخدامها بوجهين: البناء والتخريب، وفي الثاني يوجه حبيبته قمر بأن تكون متعددة الثقافة والمعرفة، وما يعنيه من انفتاح على الثقافات والمعارف والابتعاد عن التعصب. وفي نص "ذلك البنطال" يرى في الأم مثال لا يعلو عليه أيّ مثال، ويستشهد بحنين الشاعر محمود درويش إلى خبز أمه. وفي العنوان التالي "أين البلد من شباب البلد" يتطرق إلى قضايا الهوية الوطنية والولاء للوطن والانتماء للمكان. ويختم "حسام" هذه المحطة بنص "أيتها الأم" مستشهدًا بِ "أم لؤي" التي لم تفرح للأفراج عند ابنها، وهي في خيمة الاعتصام محاطة بعشرات أمهات الأسرى. وفي المحطة الرابعة تأخذ المرأة نصيب الأسد في النصوص، بدءًا بنص "امرأة بألف رجل"، يليها "مناضلة من القدس"، ثم "نجمة في سمائنا" (ويقصد سهى بشارة تلك النجمة القومية المضيئة في سماء أمتنا العربية). "ويستمر في هذه العناوين الجاذبة وصولاً إلى "التحدي والاستجابة" و«الحرية والتمرد". أما المحطة الخامسة فنبدأ ب "أحلام حرية أحلام" وصولًا إلى "امرأة على جبل أحد"، يليها "الدكتورة منى الششنية" من قطاعنا الحبيب، التي يصفها "الزيتونة الصابر" التي أثبتت للقاضي والداني قدرة المرأة الفلسطينية على تحمل الأعباء. وفي المحطة السادسة يبدأ حسام ب "كاترينا وأنا وثالثنا الشيطان"؛ المرأة النرويجية المثقفة التي رفعت راية فلسطين، ثم يستحضر "سلوى هديب" المناضلة المقدسية الأسيرة التي صمدت في وجه المحقق وخاضت معركة إضراب عن الطعام عام 1985. وينهي هذه المحطة ب "اشبينة فلسطين"؛ وهي المناضلة الإيطالية التي اصطفت إلى جانب الشعب الفلسطيني وساندت قضيته، واتهمت ب "معاداة السامية". وأما المحطة السابعة والأخيرة، فتضم ثلاثة عناوين نسوية كاملة، بدءًا ب "وزارة خارجية بلا وزارة"؛ ويشير فيها إلى المناضلة "فدوى البرغوثي" التي طافت العالم وهي تدافع عن قضية شعبها ورسالة زوجها النضالية، ثم "الجدّة نجلة حارسة الأحلام"، وهي نجلة بواري دانيال الحيفاوية (مولودة عام 1927) التي عشقت البحر، ثم اكتوت بالنكبة، ومن شدة الألم أجهضت ثماني مرات، لينتهي أمرها بسباعية جميلة: ثلاث بنات وأربعة صبيان. عاشت نجلة الغربة والاغتراب وعذابات الفقد، وفي عام 1982 زارها شقيقها يوسف العجوز وابنه فردّا لها الروح. ويختم حسام نصوصه ب "اخجل من دمع أمّي"؛ يكثّف فيها حكايته مع أمه آمنة" إلا أنها لم تعش الأمن بقدر ما كانت تمنحه. ثم يغوص في تفاصيل أمه ليستقر عند وصف مشاعرها عندما كان يتعرض للاختطاف من حضنها الدافئ على يد قوات الاحتلال.. ويغادر هذا النص، بل كتابه بأكمله، بقوله "إن قلب الأم كالفضاء؛ لا يعرف حدوده ومكنوناته إلا الله"! مسك الختام مع حسام،، لقد تجولنا مع حسام-الأسير، دون أن نراه خلف القضبان، بل جعل القضبان خلفه، فتجول مع مجتمعه، وتلمّس قضايا شعبه، ووثق للمناضلين والمناضلات، وتوجه للأجيال القادمة؛ ناصحُا أمينًا وحكيمًا يضع خلاصة تجربته لتلك الأجيال، التي يرى فيها الأمل بمستقبل مشرق. ولاحظنا في هذه النصوص أن حسامًا لم يعقّم الحالة في السجن، ويجعلها فوق الخلاف والاختلاف، وإنما أشار إلى حالة خلافية كبيرة أجهضت مشروعًا فكريًّا، عالجها "حسام" بنضج الإنسان الحريص على وحدة الأسرى وتماسكهم في وجه السجن والسجّان. إذا قلنا بأن الطفولة أخذت نصيبها في نصوص "حسام" باعتبارها موجهة إلى قمر-الطفلة وجيلها، فإن المرأة أخذت نصيب الأسد في هذه النصوص، التي ظهر دورها وأثرها في جميع المحطات؛ فظهرت المناضلة، والأسيرة، والمكتوية بالنكبة، وظهرت الأجنبية صديقة الشعب الفلسطيني، وأما المظلة فوق هذا كله فكانت الأمّ التي لامست القدسية في نصوص حسام هذه. من هنا، فإنني أرى بضرورة نشر هذا الكتاب في مدارسنا، ليقرأ طلبتنا منه مقتطفات يومية قادمة من أسير خلف القضبان، يقفز عن جدران السجن ليبث الأمل فينا، ويرسم ملامح مستقبل الأجيال القامة المشبع بالحرية والقدرة على اتخاذ القرار والتعبير عن الذات، دون خوف أو وجل!