إن المتأمل في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها صلى الله عليه وسلم في تعليمه للأمة وتربيته لها، وإن الإحاطة بكل ذلك قد لا يكون ممكناً لتنوع الأساليب وكثرتها، لكن ينبغي أن نقف مع بعض هذه الأساليب لعلنا نفيد ونستفيد من الهدي النبوي في حياتنا وتربيتنا وإرشادنا لغيرنا، وفي أول موضوعنا في هذا الملف نذكر كيف كان النبي يستقبل السائلين والمتعلمين والوافدين، ونذكر شيئا من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال الذي كان يحظى به أصحاب النبي والوافدين إليه والمدعويين إلى الإسلام.أحياناً نتعامل مع المتعلم والمدعو والمتربي على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، ولذا نرى أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب والحفاوة وحسن الاستقبال، بل قد نعتبر مجرد قبولنا له كافياً في الإكرام، وربما يشعر الأب والمربي أياً كان أن الحق له؛ فهو يطالب المتربي به. والحقيقة أن للأب والمربي حقاً كبيراً، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرّف الولد والمتربي بذلك ويغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.ولقد كان من يقابل النبي صلى الله عليه وسلم ولو لأول وهلة يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه. ففي السير أن صفوان بن عسال رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بطالب العلم؛ إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب..)، كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ في بعض الأحيان يأتي الطالب ليشارك في حلقة قرآن أو منشط خيري فيقابل بشيء من البرود ..لا بأس، اجلس مع زملائك.. دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بعارضة من الشروط المشددة (شروط القبول) والتي ربما جعلته يعود أدراجه. إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية ربما جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد ذا أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس.وعن أبي رفاعة رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله؛ رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديداً، فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها. عجيب والله، يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم؛ أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب؟ هل نستطيع نحن المعلمين أو المربين أن نقوم عن وجبة الإفطار -في المدرسة مثلاً- لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباساً خاصاً وخطيباً يخطب بين يديه إشعاراً منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم صلى الله عليه وسلم، فقال: (مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى..)، ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية)، وروي في وفادة وائل بن حجر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر به أصحابه قبل قدومه، فقال: يأتيكم بقية أبناء الملوك. فلما دخل رحب به، وأدناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقال: (اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده). وقدم وفد عبس على النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا تسعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا عاشركم). وعقد لهم لواءً وجعل شعارهم (يا عشرة). إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية.