الأجهزة الأمنية تعتبر مركز الثقل الأساسي والقوة الضاربة لأي قوة أو سلطة أو دولة، والأداة الأولى ذات الفعالية القوية والمباشرة في حفظ الأنظمة والكيانات السياسية، وأن مدى قوتها واتساع رقعة نفوذها ينعكس –تلقائيا- على مرجعيتها السياسية النافذة، حركة كانت أم سلطة أم دولة، ومدى استجابتها للتحديات التي تواجهها.ولعل الحالة الفلسطينية الراهنة التي تمتزج فيها كل التناقضات، وتنصهر في بوتقتها كل الأجندات والتجاذبات، تشكل نموذجا فريدا ومتمايزا، على مستوى المنطقة والعالم، لتشابك القيم واصطدام المفاهيم في أبعادها الأمنية والأخلاقية، بما يجعل من جدلية المقاومة والإصلاح إطارا واسعا لاستمرار الأزمة وتعميق واقع الانقسام تحت ضغط نواظم ومحددات وعقبات تعترض سبل ترتيب وإصلاح الأجهزة الأمنية في إطار حوارات القاهرة، وتحيطها بغلاف سميك من الاستعصاء والانغلاق. الفيتو الإسرائيلي والأميركي لا خلاف أن الفيتو الإسرائيلي والأميركي يشكل أول وأهم وأخطر العوائق التي تعترض سبل إصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة بنائها على أسس مهنية ووطنية.ولا جدال –أيضا- في أن الأجهزة الأمنية قد شُكلت خصيصا لحفظ الأمن الإسرائيلي والأمن الفلسطيني الداخلي وفقا لنصوص اتفاقات أوسلو وتوابعها الأمنية، وأن مهامها وأدوارها وإستراتيجية عملها تدور في إطار الرؤية الأمنية الإسرائيلية، وأن قياداتها وكوادرها النافذة يجب أن تحظى بالرضى الإسرائيلي دون تجاوزات.لا يعني ذلك أن هذه الأجهزة تتحرك بوحي كامل من التوجيه والإرادة الإسرائيلية، أو الأعراف والتقاليد الأمنية المطلقة التي تم تكريسها في إطار العلاقة مع الاحتلال، فقد شهد الوضع الفلسطيني خلال بعض المراحل والمنعطفات خروجا عن بعض القواعد المرسومة، وخاصة إبان انتفاضة الأقصى، إلا أن البوصلة سرعان ما كانت ترتدّ إلى قبلتها المحددة ووجهتها المعروفة، وتعود الأمور إلى سابق عهدها دون أي تغيير رغم بعض المحاولات الجادة لتغيير بعض قواعد عمل الأجهزة الأمنية.ويمكن استحضار تجربة الرئيس الراحل ياسر عرفات بهذا الخصوص، فقد وضع أجهزته الأمنية موضع الحياد إزاء الاستحقاقات الأمنية المترتبة على الاتفاقات الموقعة، ورَبط إعادة تفعيلها واستئناف دورها الأمني المنوط بها حسب الاتفاقات باشتراطات سياسية، فكان الحَجْر والمقاطعة والحصار جزاءه، بل بلغ الأمر حدّ تسميمه وإنهاء حياته حسب العديد من الشواهد والمؤشرات.في ذات السياق بلغت برامج تدريب وتأهيل الأجهزة الأمنية التي تولتها –ولا تزال- الاستخبارات الأميركية شأوا بعيدا، يرفع كفاءتها ويرتقي بأدائها في مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية، ويخلق منها كيانا أمنيا وديعا ذا مهام وظيفية لا تتعدى حفظ الأمن الداخلي وحماية أمن الاحتلال.من هنا يمكن القول إن الأجهزة الأمنية قد تمت برمجتها لأهداف وغايات محددة، وإن حرفها عن دورها المرسوم أو محاولة تغيير بعض القواعد والمعايير الناظمة لعملها وسلوكياتها، أمر دونه الكثير من العراقيل والأشواك والدماء.وبكلمة موجزة فإن النجاح في إعادة تشكيل هذه الأجهزة على أرضية وطنية ووفقا لضوابط مهنية ومعايير موضوعية يعني –أولا وأخيرا- هدم كامل البناء والهياكل والمخططات الأمنية التي تم تدشينها طيلة المرحلة الماضية إسرائيليا وأميركيا، وتوجيه ضربة قاصمة للأمن القومي الإسرائيلي، مما يؤرخ لمرحلة جديدة تفتح أبوابها على أشكال جديدة من التحديات الهامة إسرائيليا.فلا غرابة –إذن- أن تُشهِر حكومة الاحتلال والإدارة الأميركية سيف اعتراضهما الصارم في وجه محاولات إصلاح هذه الأجهزة وفق المعايير والمفاهيم الوطنية، وأن تضعا أي محاولة من هذا القبيل في كفة، ومستقبل السلطة برمتها في كفة أخرى! الانغلاق الفئوي شكلت الأجهزة الأمنية حجر الزاوية في تثبيت دعائم السلطة وكيانها الوليد عقب توقيع اتفاقيات أوسلو، ولولا قوتها وبطشها وسعة نفوذها لما تمكنت السلطة من الصمود مدة تزيد عن اثني عشر عاما، ولسقطت في غضون فترة زمنية وجيزة. ولا يخفى على أحد أن العماد الأساسي والأكثرية الساحقة من قيادات وأبناء هذه الأجهزة تنتسب إلى حركة فتح، سواء كان ذلك انتماء تنظيميا أو تأييدا عاما أو ارتباطا مصلحيا ووظيفيا. ولم تتهاوى الأجهزة الأمنية للسلطة في قطاع غزة في إطار ما اصطلح على تسميته ب"الحسم العسكري" إلا بعد جولات متواترة من الصدام الدامي والمعارك الشرسة مع البنى والمجموعات العسكرية التابعة لحركة حماس، مما يفضي إلى الاعتقاد الجازم بأن هذه الأجهزة -التي تهيمن عليها حركة فتح بشكل كامل في الضفة الغربية- تشكل ورقة رابحة وقوة ضاربة بيد الحركة، وأن التفريط فيها أو إدخالها حلبة المساومة تحت مسميات من قبيل إعادة البناء أو الصياغة وفقا لاعتبارات مهنية يُعدّ –من وجهة نظر فتح- ضربا من ضروب المحال.ومما يزيد الطين بلّة أن تجربة "الحسم العسكري" في غزة قد ضاعفت شراسة أجهزة أمن الضفة، فاندفعت بكل قوتها في طريق استئصال حركة حماس وبنيتها المدنية والعسكرية، وغاصت في مستنقع التنسيق الأمني مع الاحتلال بشكل غير مسبوق، وباتت في سباق مع الزمن أمام تحدي وجود حماس ومؤسساتها، مسكونة بهواجس غزة وأحلامها المزعجة.لذا فإن المراهنة على تسامح فتحاوي إزاء التخلي عن بعض أشكال السيطرة والهيمنة على الأجهزة الأمنية، والتسليم بواقع إعادة ترتيبها في إطار أي توافق داخلي، يعاكس قراءة الواقع المعيش، ويخطئ فهم الأجندة الفتحاوية وأولوياتها الراهنة، وخاصة في ظل سيطرة حركة حماس على الأجهزة الأمنية في قطاع غزة بشكل تام. المصالح الذاتية ومراكز النفوذ راكمت سني السلطة الكثير من المصالح والامتيازات لقيادات وكوادر الأجهزة الأمنية، حتى إن المؤسسة الأمنية تحولت إلى ممالك وإقطاعيات خاصة، ومراكز نفوذ هائل يتم توظيفها لحسابات شخصية وفئوية لا تمت إلى العمل المهني والإداري والوطني بصلة.هذه الحقيقة المرّة استثارت العديد من القيادات الوطنية الغيورة في بعض المراحل والمفاصل الوطنية، ودفعتها لبذل جهود مضنية في سبيل الحدّ من تغوّل الأجهزة الأمنية على الحياة العامة وعسكرة المجتمع الفلسطيني، ومحاولة إعادتها إلى مكانها الطبيعي ووظيفتها المعروفة.ورغم قوة بعض هذه القيادات وسعة نفوذها وغطائها السياسي، فإن كافة محاولاتها باءت بالفشل، بل إن اللواء نصر يوسف عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الذي تقلد وزارة الداخلية في مرحلة سابقة، اعترف أمام المجلس التشريعي بفشله في محاولة إصلاح الأجهزة الأمنية ومعالجة مراكز القوى فيها، مؤكدا أن الكثير من قياداتها وكوادرها يشكل "مافيات" خطيرة ترتبط بأجندة استخبارية خارجية. واقع الممارسة والتصعيد لا يشي حال الأجهزة الأمنية بانفراج قريب يصل إلى هياكلها وإستراتيجية عملها، إذ تكفي إطلالة سريعة على واقعها الراهن لاكتشاف عمق الخلل في أدائها، ومدى إيغالها في تأزيم الوضع الداخلي وتعزيز الانقسام الوطني.إن الحملات الأمنية المتعاقبة التي تمارسها هذه الأجهزة بشكل منهجي، وتتباهى بتنفيذها –أحيانا- في حضرة وسائل الإعلام الإسرائيلية، لا تنبئ برياح تغيير قريبة أو حتى إرهاصات إصلاح شكلية تبتغي الاستهلاك الإعلامي وذر الرماد في العيون. فالاعتقالات السياسية التي تستهدف كوادر وأنصار حركة حماس تجري بشكل يومي في الضفة الغربية، واستمرار المداهمات وإغلاق المؤسسات، بموازاة استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال، بما يضع القيم الوطنية في دائرة الخطر الشديد، ويبث روح الإحباط والاغتراب عن الوطن.ولئن شهدت غزة إغلاقا لملف الاعتقال السياسي، فإن ذلك لم يمنع استمرار الأجهزة الأمنية فيها من مواصلة ممارسات التضييق والرقابة الأمنية الصارمة على ناشطي فتح هناك. لذا فإن واقع الممارسة والتصعيد الذي تحياه الأجهزة الأمنية، وخاصة في الضفة الغربية، لا يحمل أية آمال أو مبشرات بقدر ما يحمل إيغالا في طريق استئصال الخصم السياسي، وإصرارا على انتهاك الكرامة والحقوق الإنسانية. بين المقاومة والتنسيق الأمني تبدو الإشكالية الخاصة بمعالجة قضية الأجهزة الأمنية إشكالية برامج بامتياز، فهي لا تتعلق بالإصلاح الإداري والتصويب المهني بقدر ما تتعلق بأزمة الانقسام الحاد بين برنامجي التسوية والمقاومة اللذين تستمسك بهما كل من حركتي فتح وحماس. فحركة حماس تصر على ضرورة تبني هذه الأجهزة لعقيدة أمنية ذات أساس وطني، وتحديد مهامها الوظيفية بحفظ الأمن الداخلي والتصدي لأي عدوان خارجي، وقطع دابر التنسيق الأمني مع الاحتلال أو أي شكل من أشكال الارتباطات الخارجية، والنأي بها عن أي إشكال أو اصطدام مع قوى المقاومة. أما حركة فتح فإنها تُشرّع التنسيق الأمني على قاعدة الالتزامات الأمنية المفروضة بموجب اتفاقات أوسلو وخريطة الطريق، وتبيح كافة الإجراءات تبعا لذلك، وتبدي انفتاحا بلا حدود على التزامات واتفاقات أمنية مع الإدارة الأميركية وغيرها، تشتمل على التزود بالسلاح والمعدات وتدريب وتأهيل العناصر الأمنية والإشراف على الأداء الأمني وفقا للمهام المرسومة، وترفض توظيف الأمن الوطني الفلسطيني في أي محاولة للصدام أو التصدي لأي توغل أو عدوان إسرائيلي.لذا من الواضح تماما أن الفريقين يختطان طريقين لا يلتقيان، ولن يجسر بينهما سوى زحزحة أي منهما عن موقفه وبرنامجه، وهو أمر يبدو بعيد المنال وأقرب إلى سبحات الخيال وعالم التمنيات. مستقبل الأجهزة الأمنية ليس صعبا استكناه مستقبل الأجهزة الأمنية ودورها المنتظر، فما يحرثه الواقع الراهن من أدوار إستراتيجية وممارسات جوهرية يرسم مؤشرا بالغ الوضوح حول صورة عمل هذه الأجهزة في قادم الأيام، ويبدد أي بصيص أمل في تبدل أدوارها أو استبدال ممارساتها أو إقدامها على التعاطي مع أولويات عمل جديدة تعطي فسحة ما أو هامشا محددا لأي توافق وطني قد يتم بلوغه مستقبلا.إن أي حلّ قد يمس المسألة الأمنية خلال المرحلة المقبلة لن ينفذ إلى العمق والتفاصيل، أو يأتي على إنفاذ القيم والمعايير المهنية التي تضمن بناء صحيحا وصياغة سليمة للمؤسسة الأمنية، وسيبقى قاصرا عن بلوغ جوهر علاتها أو ملامسة أي مفردة من مفردات الأزمة، بُنى وهياكل وقيادة ورؤى ومرجعية وصلاحيات، دون أن يعني ذلك عدم إمكان حدوث رتوش أو خطوات تجميلية شكلية تحت مُسمّى "الإصلاح" في إطار أي حل توافقي بين الفرقاء المتحاورين، مما يُنبئ بأن الملف الأمني سيبقى رهينة لبعض الإجراءات الشكلية التي لا تمس بنيته الأساسية أو مُوجّهاته السياسية.فالأجهزة الأمنية الواقعة تحت حكم حركة حماس في غزة سوف تبقى كما هي، وستبقى محتفظة بقوتها وولائها مهما جرى على قيادتها من تعديل في إطار أي خطة إصلاحية قد يتم التوافق عليها، وفي ذات الوقت ستبقى الأجهزة الأمنية في الضفة على ذات الشاكلة بعيدا عن أي تغيير حقيقي.ومن البديهي القول إن أي تغييرات أو تعديلات في قيادة الأجهزة الأمنية في الضفة أو القطاع –إن تمت- لن تكون بمعزل عن رضى ومصادقة حركتي: فتح وحماس، فحركة حماس لن تقبل سوى أشخاص موالين لها في غزة، وكذلك شأن حركة فتح في الضفة، ولا يمكن توقع إجراءات أخرى تبتعد عن هذا السياق، أو توحي بغير هذه المفاهيم والمُسلّمات رغم الاقتناع المؤكد لدى الكثيرين بأن شيئا ذا بال لن يطرأ على الملف الأمني وتفاصيله المعروفة.أما الحديث عن مهام وأدوار جديدة لهذه الأجهزة تنزع بها نحو العمل الوطني الصرف في إطار أي توافق وطني بعيدا عن التنسيق الأمني ولوثة الصراع الداخلي، فهو سباحة في الوهم والخيال، وحديث مرسل في الفراغ لا ينسجم مع معطيات الواقع وقواعد اللعبة والأجندات المتضاربة، دون أن يعني ذلك تخفيفا من حدّة هذه الأمراض والموبقات وتقليلا من آثار قسوتها وإشكالاتها لا مواجهتها والقضاء عليها.وباختصار يبدو الأفق أشد ما يكون انسدادا أمام أية محاولة لمعالجة الملف الأمني الفلسطيني بسبب ضغوط وعوائق خارجية وداخلية نافذة، تجعل من أي تفكير في اتجاه التغيير والإصلاح أمرا يشذّ عن منطق الأمور وواقع الحال، ويعبر عن سطحية مفرطة في الفهم والتفكير السياسي والوطني.ولن يكون بوسعنا سوى ترقب خطط نظرية وآليات تجميلية شكلية في إطار أي توافق وطني قد يتم إنجازه مستقبلا بخصوص المسألة الأمنية، كثمرة وحيدة جدباء يجود بها الملف الأمني دون انتظار أية تغيرات حقيقية تمس بُنى وهياكل الأجهزة الأمنية