إعداد: بلقاسمي ف/الزهراء تطرق الباب الخشبي بالمقبض النحاسي المعلق في منتصفه، فتختلس صاحبة الدار النظر من فتحات النافذة الأرابيسكية، قبل أن تسمع خطوات متسارعة تتجه ناحية الباب الذي فتح على وجه يافع تملأ اللهفة عيني صاحبته، بيد أن لهفتها قد بقيت معلقة بين البشر والصمت الذي التزمت به الزائرة التي اتجهت مباشرة لتجلس بجوار الأم على الأريكة التي تتوسط صحن البيت، وهي ترفع برقعها بأناة وتطلب من الفتاة كوب ماء يروي ظمأها بعد تجوال دام لساعات على بيوت الحي، ولا تكاد الفتاة تذهب حتى تلتف الضيفة إلى الأم وتخرج من جعبتها صورة أحدهم قائلة "اطمئني.. جاك عريس وليد فاميلية هايل.. ابن ناس ومقتدر.. دي بركة دعاكي لها". تلك هي الصورة التقليدية ل"الخاطبة" أوائل القرن الماضي، والتي نقلتها إلينا الدراما وروايات نجيب محفوظ وغيره من الأدباء، وهي صورة لسيدة أشبه ب"الدلالة"، تعرف أصول الأسر والعائلات في حيها، وتلف على البيوت التي توارت بناتها في أخدارهن، لا يخرجن إلا لضرورة وقد غطى الحجاب وجوههن، حتى المدارس لم يرتدنها، حيث تبحث "الخاطبة"، عن أزواج مناسبين لهؤلاء الفتيات اللائي "لا يرى طرفهن الطريق"، كما كان يقال. وبتقديم الشريط عدة عقود زمنية تقترب من القرن يعود المشهد مرة أخرى للخاطبة، ولكنها الآن تطرق شاشة حاسبك الآلي، مستخدمة لوحة المفاتيح، بعد رحلة تجوال في دروب الشبكة العنكبوتية، لتعرض خدماتها للتوفيق بين الفتيات اللائي بلغت نسبة العنوسة بينهن في العالم العربي مبلغها، وبين الشباب الراغبين في الزواج. فبين منتدى "فتكات"، وموقع "عرائس"، ومدونة "أم نايف"، والخاطبة "نور"، تعلن العديد من الخاطبات والخاطبين عن خدماتهم، بأحدث الأدوات العصرية، والتي كان آخرها دليل "الشامل" للخاطبات في الوطن العربي. وتقدم أم محمد الخاطبة نفسها على هذا الدليل قائلة "أنا الخاطبة أم محمد من مدينة دمشق، أقدم خدماتي للراغبين في الزواج بالحلال من سوريا، وأقدم خبراتي المتواضعة وأضعها بين أيديكم من خلال علاقتي الاجتماعية الجيدة، فأرحب بكل طالب حلال"، وكذلك تفعل قريبتها بالسعودية قائلة "تعلن أم مها للراغبين بالزواج من الجنسين الفتيات والفتيان، عن وجود طلبات للزواج بمدينة جدة للجادين فقط".أما أم سعود الإماراتية فلم تعد هي من تبحث عن مواقع ومنتديات تعلن من خلالها عن خدماتها، بل صارت المواقع والمنتديات ووسائل الإعلام هي من تبحث عنها لتغطي أخبار شهرتها التي زادت في كل أنحاء دولة الإمارات العربية وتعدتها لباقي دول الخليج. فأم سعود تعمل كخاطبة منذ 18 عاماً، لكن مع ارتفاع نسبة العنوسة وانتشار استخدام الإنترنت الذي تعلن الخاطبات من خلاله، ازدهرت مهنتها التي ورثتها عن جدتها ووالدتها، وصارت تحدد عدد طلبات الزواج التي تتلاقها يومياً بعشر طلبات فقط!، بتكلفة 500 درهم (135 دولاراً) لفتح الملف الواحد، وعند إتمام الاتفاق يدفع مقدم الطلب 3 آلاف درهم (800 دولار) إن كان رجلاً، وخمسة آلاف درهم (1300 دولار) إن كانت امرأة!. الخاطبة فيس بوك: وعلى موقع فيس بوك الاجتماعي المعروف هناك 57 مجموعة باسم "الخاطبة"، أهمهم مجموعة "الخاطبة راسين في الحلال" والتي يقترب عدد أعضائها من ألفي عضو، وعلى صفحته الرئيسية تجد الخبر التالي "أخيراً حققنا هدف الجروب، وفى 3 حالات ارتباط حصلت في الجروب، منهم اثنين رسمي وواحدة لسه بتبدأ وهتبقى خطوبة رسمي قريباً برده إن شاء الله". وهناك أيضاً مجموعة "وجعل بينكم مودة ورحمة"، والتي يبلغ عدد أعضائها نحو 2500 عضو، وتعرف المجموعة نفسها بالقول "أحبائنا في الله، إخواننا في طريق العفة والبحث عن الزوج الصالح والزوجة الصالحة في إطار شرعي وأخلاقي، لمن يرغب في البحث أو المعرفة أو الاختيار السليم للزوج أو الزوجة.. نعم نظام الخاطبة.. لكن هذا نظام جديد اسمه خاطبة نتية". "لكن هذه المجموعة للجادين فقط، ليتعرفوا فيها على بعضهم، ويفتحوا بيوتاً مسلمة جديدة، بشروط محددة وبما يرضي الله ورسوله، وكذلك معنا دروس ومحاضرات للأزواج والزوجات، وسنفتح باب للمناقشة في مشاكلهم، وأكيد كلنا سنتعلم ونفيد بعض". لماذا عادت؟ والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة، إذا كانت الخاطبة ضرورة في القرن الماضي حيث الفتيات أسيرات المنازل لا يخرجن حتى للتعليم ولا توجد أي فرصة للتعارف بينهم وبين الرجال، فما الذي عاد بها كضرورة في القرن الواحد والعشرين والذي صار فيه التعامل بين النساء والرجال في المدارس والجامعات وأماكن العمل ووسائل المواصلات وحتى الإنترنت هو الأصل، وصارت الفتاة اليوم يعرفها كل من حولها جيداً؟! ما الذي حدا بإحداهن على موقع "عرائس" أن تستغيث مستنجدة بالخاطبة "نداء إلى كل من تعرف أرقام خاطبات في الرياض، الرجاء أسعفوني بهذه الأرقام، أتمنى تتفاعلون معاي.. أنا جدا تعبت نفسياً لأني أبي (أريد) أتزوج.. ليس لغرض الارتباط برجل مهما كانت مواصفاته، ولكن لكي أستقر، ويكون لي أولاد وأكون بشخصية مستقلة.. أرجوكم.. عسى ربي ينولكم منالكم ويسعدكم ...". ويجيب عن هذا السؤال د.رشاد عبد اللطيف أستاذ تنظيم المجتمع بكلية الخدمة الاجتماعية ونائب رئيس جامعة حلوان في تصريح خاص ل"إسلام أون لاين" قائلاً "الخاطبة ضرورة بالنسبة لبعض الأسر التي لازالت محافظة، حتى ولو خرج أبنائها خارج البيت تظل علاقاتهم متحفظة، وكذلك الأسر التي لا تجيد لغة الحوار، أو تلك التي ليس لديها علاقات اجتماعية واسعة". أما د.نعمت عوض الله مستشار اجتماعي وتربوي وخبيرة علاقات الزواجية فتقول ل"إسلام أون لاين ": كانت مهنة الخاطبة قد اختفت بالفعل، ثم عادت فجأة منذ نحو20 عاما، كانت من قبل موجودة لعدة أسباب منها عدم خروج المرأة والاهتمام بمسألة الأصول ومعرفة الأسر من خلال وسيط، وهو ما كانت تقوم به بالتعاون مع ما يعرف بشيخ الحارة". "أما عودتها اليوم –تتابع د.نعمت- فتعود لعدة أسباب أبرزها انتشار العنوسة بين الفتيات، وتفكك العلاقات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال طلب مني شاب أن أبحث له عن عروس، فلما سألته إن كان قد قابل أي فتاة جذبته أجاب: قابلت لكني أخاف!، فمع انتشار وسائل الإعلام التي صارت تنقل كل الفضائح والجرائم والانحرافات السلوكية على الهواء مباشرة، صار هناك عدم ثقة ومن ثم ظهرت الحاجة مرة أخرى لوسيط يستوثق ويطمئن الشاب".