يتكتم الكثير من الناس، عن الوظائف والأعمال التي يزاولونها، كما أن آخرين يفضلون "الحيط" على مزاولة ما أتيح لهم من مهن ووظائف، باعتبار أنها لا تليق بمقامهم أمام العائلة والأصدقاء، وذلك نظرا لأن العديد من الأعمال والوظائف، ما تزال تعاني نظرة الاحتقار في المجتمع الجزائري، خاصة وأن هذا الأخير أصبح متطبعا بأنماط العيش الغريبة عن عاداتنا وتقاليدنا، ومتشبعا بالمظاهر الزائفة، وحب التفاخر. يتفق الجميع على أن العمل هو ضرورة من ضروريات الحياة، خاصة في وقتنا الراهن، حيث يعمل كل أفراد الأسرة حتى يتمكنوا من تلبية مختلف احتياجاتهم اليومية، لكن الاختلاف يكمن في نظرة المجتمع إلى هذه الوظيفة التي يزاولها المرء، فهناك من لا تتعدى عنده أن تكون مصدر للرزق، يكسب منه قوت يومه، وهناك من يشترط أن تكون مهنة شريفة، لا يكون فيها احتيال أو تعدي على حقوق الغير وممتلكاتهم، ويكسب منها الدخل الذي يحفظ له كرامته في العيش، في حين يبحث آخرون عن تحقيق المنصب، والمركز الاجتماعي من خلال الوظيفة التي يمتهنوها، وتذهب بهم رغبتهم هذه إلى رفض أي مهنة لا تعزز مكانتهم في المجتمع، كما أن للبعض الآخر شروطهم حول المهنة التي يزاولونها، والتي تتراوح بين أن لا تكون متعبة، أن تكون مهنة مستقرة، أو أن يكون أجرها مرتفعا... وغيرها من الشروط. مهن شريفة ولكن... ولهذه الآراء المختلفة اتجاه الأعمال والوظائف، تأثير كبير على صيرورة الحياة الاجتماعية، حيث يعزف الكثير من الشباب عن مزاولة مهن عديدة فقط لأن نظرة المجتمع إليها، هي نظرة احتقار، حتى إن كلفهم ذلك الدخول ضمن تعداد البطالين، أما من اضطرتهم ظروف الحياة إلى مزاولة مثل هذه المهن التي يحتقرها المجتمع رغم أنها مهن شريفة، فإنهم إما أن يتحملوا نظرات الاستعلاء التي تطالهم وتطال أفراد أسرهم من الآخرين، وإما أن يخفوا حقيقة هذه المهن التي يمارسونها، وتتصدر قائمة هذه المهن كل مهنة لها صلة بأعمال التنظيف، مهنة الإسكافي، البناء، وغيرها كثير، والغريب أن نمط الحياة القائم على المظاهر والتعجرف أصبح يغذي مثل هذه الآراء، ويجعلها قوانين سائدة وسارية المفعول على جميع أفراد المجتمع. "الحيط ولا خدمة الذل" يفضل الكثير من الشباب أن يوصفوا بأنهم "حيطيست"، وأن يمدوا أيديهم كل صباح لطلب مصروف اليوم من الأهل، على أن يمتهنوا أعمالا يعتبرونها مذلة لهم، وذلك تحت شعار "الحيط ولا خدمة الذل"، وما يثير الاستغراب هنا هو أن ما يصطلحون عليه "مهنة ذل" هي أعمال شريفة، توفر لهم الدخل الذي يحتاجونه، وتساعدهم على تأمين مستقبل أفضل، وعلى عكس الشعار الذي يحملونه، فهي التي تجنبهم ذل قضاء أوقاتهم متكئين على الحيط، لكن ولأن المجتمع لا يحترم هذه المهن، فهي لا تمنح لصاحبها ذلك المنصب والمكانة الاجتماعية، فإن الشاب ينظر إليها على أنها مهنة ذل يأبى امتهانها، وإن كلفه ذلك أن يقضي حياته بطالا. "أنا عانس بسبب وظيفة أمي" أما ليليا فقد كان لهذا المشكل تأثير كبير على حياتها، فرغم أنها شابة متعلمة، ومتخلقة، وتشغل وظيفة محترمة، إلا أن الخطاب كما تقول لا يطرقون بابها، ومن تقدم منهم فسرعان ما يذهب بدون رجعة بعد أن يعرف مهنة والدتها، فليليا وثلاث إخوة فقدوا والدهم، في طفولتهم، ومنذ ذلك الوقت وأمهم تعمل كعاملة تنظيف بإحدى المدارس الابتدائية، القريبة من حيهم، من أجل أن تعيلهم، وتوفر لهم احتياجاتهم اليومية، وتضيف ليليا أن والدتهم لم تقصر معهم يوما حيث علمتهم، وربتهم على حسن الخلق، لكن ذلك لم يشفع لها أو لهم، فكثيرا ما يتعامل معهم الآخرون على أنهم أبناء عاملة التنظيف، وتعتبر أن هذا المشكل أصبح جليا بالنسبة لها، عندما أصبحت عانسا –على حد تعبيرها- بسبب هذه الوظيفة التي تمتهنها والدتها، حيث لا يطرق بابها خاطب إلا ناذرا، كما أن آخر من تقدم لخطبتها طالبها بأن لا تتحدث أمام عائلته عن مهنة والدتها، وعندما رفضت ودافعت عن مهنة والدتها ذهب الخاطب ولم يعد. "أنا فخورة بأبي... لكني لا أجرأ على البوح بوظيفته في الجامعة" وتعد منال نموذج آخر لمن يخشون نظرة المجتمع وأقاويل الناس، ويحسبون ألف حساب لكل ما قد يمس صورتهم أمام الآخرين، ومنال هي طالبة بكلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، أما والدها فيعمل سائقا خاصا لدى إحدى العائلات الغنية بالعاصمة، تقول منال أنها تحب جدا والدها وتحترمه، كما أنها فخورة به، وتقدر الجهد الذي يبذله من أجل أن يوفر لها ولشقيقتها كل ما تحتاجان إليه، لكن بالمقابل تضيف أنها لم تبح يوما لأحد من زملائها في الجامعة، بحقيقة العمل الذي يزاوله والدها، ليس لأنها تحتقر مهنته، لكن لأن المجتمع يحتقر مثل هذه المهن، حيث تقول أنها وخلال دراستها الثانوية لم تكن تخفي هذا الأمر، بل كان عاديا بالنسبة لها، وكل الجيران، وسكان الحي يعرفون مهنة والدها، لكن وبمجرد دخولها الجامعة، تقول الطالبة بأنها اصطدمت بمجتمع يملأه الغرور، التكبر، والتعجرف، وكل تعاملاته قائمة على المصالح، والمظاهر، ولا مكان فيها للإنسان البسيط، وهو الأمر الذي دفعها كما تقول إلى إخفاء حقيقة عمل والدها، إلا عن صديقتيها المقربتين.