انتعش مؤخرا سوق «التنظيف» بالجزائر وبشكل غير مسبوق بعد أن زاد الطلب بشكل كبير على مهنة التنظيف التي لم تعد حكرا على المتقدمات في السن اللائي لا يملكن أي مؤهل علمي، بل أصبحت تستقطب حتى الجامعيات، بعد أن أوصد سوق العمل أبوابه وأصبحت مناصب العمل شحيحة لا تستجيب لحجم الطلب، طلب زادت من حدته، الحاجة الكبيرة للمنظفات، خاصة بالمدن الكبرى التي ركبت فيها المرأة قطار العمل وأصبح من الصعب عليها التوفيق بين البيت والعمل، سوق أسال لعاب الكثير من السماسرة، الذين قرروا فتح مؤسسات متخصصة تلعب دور الوسيط بين المنظفات والمؤسسات أو العائلات التي تحتاج إلى خدماتهن. لم تكن المرأة إلى وقت قريب تفكر في امتهان عمل التنظيف إلا مضطرة، لتوفير لقمة العيش لفلذات كبدها في غياب الزوج الذي رحل إلى الرفيق الأعلى دون أن يترك لها ما يعينها على متطلبات الحياة وظروف المعيشة أو طلقها وهجرها لسبب أو لآخر، لتجد نفسها مسؤولة على أطفال ولا بد أن تكمل وحدها مسيرة تربيتهم وتعليمهم، وبما أنها لا تحوز على أي شهادة أو مؤهل علمي، فعملها الوحيد سيكون تنظيف البيوت والاستعانة بما تجود به عليها ربة البيت التي تكون في الغالب موسرة الحال وإلا ما كانت استعانت بخادمة، مع مرور السنين واكبت مهنة التنظيف هي الأخرى تغيرات المجتمع وزادت معها الحاجة بشكل كبير للمزيد من المداخيل المادية، فالحياة أضحت مكلفة بشكل كبير جدا ولم يعد بمقدور الرجل وحده التكفل بمتطلباتها، فلا بد أن تشاركه المرأة هي الأخرى مشاقها حتى في شقها المادي، وحتى مع رغبة المرأة الأرملة أو المطلقة في المدن الكبرى وهي في مقتبل العمر في حياة أفضل، لا تهمها نظرة المجتمع الذي لا يهتم أصلا في الكثير من الأحيان، فكل فرد منشغل بنفسه يسعى لكسب الدينار وحتى وإن اهتم فالأمر لا يخجلها أبدا، ما دامت توفره بعرق جبينها، فهي لن تقف عند قصور فكر بعض الناس الذين ينظرون إلى بعض المهن نظرة دونية، فألاهم عندها أنها شريفة ومحترمة. مهنة التنظيف.. بين الأمس واليوم كسرت الكثير من المنظفات اليوم الصورة النمطية التي كان يحملها عنهن الفرد، والمنظفة لم تعد تلك المرأة المسنة المسكينة التي تثير الشفقة، والتي ما خرجت لتشتغل خادمة عند النساء إلى بعد أن ساءت ظروفها وعجزت عن توفير لقمة عيش أسرتها وحتى من تشتغل تفضل التكتم خاصة عن الأهل والأقارب، تجنبا لنظرة الشفقة والاحتقار من جهة وحماية لأطفالها، خاصة إن كان لها بنات مقبلات على الزواج يخجلهم أن يعرف الناس ماذا تشتغل أمهم من جهة أخرى، فالكثير من الناس ألسنتهم طويلة ولا يهتمون إلا بالمظاهر، لدرجة يرفضون فيها حتى الارتباط بابنة من تمتهن التنظيف، لكن اليوم في الغالب أصبحت المنظفة كغيرها من العاملات، تحضى بالكثير من الامتيازات في عملها، كالتأمين وغيره، فخدمتها لم تعد تقتصر على البيوت فقط بل حتى بالمؤسسات العامة والخاصة وبراتب مغري في بعض الأحيان، كما أنها لم تعد فقط تلك من تجاوز سنها الأربعين بل من الوارد جدا أن لا تكون في العشرينيات من العمر وعلى قدر من كبير الجمال تهتم كثيرا بمظهرها لدرجة تتفوق فيها حتى على من يشتغلن بمهن مرموقة، يلبسن ما غلى ثمنه وكن السباقات في اقتناء أجهزة محمول متعدد الوسائط يوم كان هذا النوع من الهواتف من الموضات الجديدة، فكما تحدثنا طالبة تقيم بإحدى الأحياء الجامعية للبنات بالعاصمة إن إحدى المنظفات المكلفات بجناحها كانت تمثل استثناءا للعديد من الطالبات وحديث الكثير منهن، فمن يراها يجزم أنه من غير الممكن أن تكون خادمة، فهي تجيد كثيرا العناية بمظهرها من لباس إلى عطر إلى ماكياج وحتى هاتفها المحمول كان باهض الثمن، تتحدث بأدب كبير وتتقن حتى الفرنسية، لتتفوق بمظهرها على الكثير من الطالبات رغم أنها مطلقة في الثلاثينيات من العمر، توقفت عن الدراسة في المرحلة الابتدائية، فمع الظروف الاقتصادية الصعبة التي أصبحت الكثير من العائلات الجزائرية تتخبط فيها وجدت المرأة نفسها مجبرة على الخروج إلى العمل خاصة إن لم يسعف الحظ زوجها للحصول على منصب عمل وحتى إن كان يعمل، فراتبه وحده لم يعد يفي بالغرض، خاصة في المدن الكبرى التي سيطرت فيها الماديات بشكل كبير جدا وأصبح العيش يتطلب الكثير، فما كان بالأمس كماليا أصبح اليوم ضروريا، ضف إلى ذلك أن الكثير يولى عناية كبيرة للمظاهر، وحتى أن الأمر لم يعد مقصورا على غير المتعلمات بما أن أزمة الشغل خنقت الكثيرات ومهنة التنظيف أصبحت مداخليها مغرية قد تتجاوز 3 مليون سنتيم، إن عرفت المرأة كيف تنظم وقتها، فهي في اليوم الواحد يمكنها أن تعمل بمكانين مختلفين، أحدهما بالفترة الصباحية والآخر بالفترة المسائية، أي راتبين ولن يحتاج منها هذا العمل الكثير من العناء، فهي تكتفي في البيوت وفي الكثير من الأحيان بتنظيف الأرضية والحمام والمرحاض وغسل الأواني، أيضا تتقلص التزاماتها ويخف عناءها وتزيد امتيازاتها إن كانت عاملة بإحدى المؤسسات أو الإدارات والأكثر أن الطلب على الخادمات زاد بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة مع تحرر المرأة وخروج الكثيرات للعمل، فأمام عجزها عن القيام بمسؤولية البيت، تلجا للاستعانة بتوظيف إحداهن وتضطر في الكثير من الأحيان إلى الاستعانة بخدمات إحدى الصحف لنشر طلبها، واستثمر البعض خاصة من النساء في زيادة هذا الطلب وقاموا بإنشاء شركات ومؤسسات تضطلع بمهمة توظيف هذه الخادمات وتوفير طلب الزبائن الذي يتزايد يوما بعد يوم. حتى للجامعيات نصيب بعضهن أنهين دراستهن وحصلن على شهادات جامعية وبعضهن الآخر على وشك التخرج، وبعد أن كن يحلمن بوظائف راقية تناسب مستواهم الفكري ومؤهلهم العلمي، وجدن أنفسهن خادمات ببيوت لا تهمها مطلقا مؤهلاتهن، ولا مستوياهن، فكل ما يلزم أن يجدن ما تقوم به المرأة عادة من أشغال التنظيف، فهن لن يكن سوى منظفات بالبيت، فبعد أن لم يوفقن في الحصول على منصب عمل وبما أن ظروفهن الاقتصادية لا تسمح أن يصبرن أكثر وبما أن الكثيرات مسؤولات على عائلات، وحتى من لم تتخرج بعد تنتظرها الكثير من المصاريف، فضلن الرضوخ للأمر الواقع والعمل حتى بالتنظيف ما دام العمل حلال وشريف، لكن لأن المجتمع مجحف ولا يهتم إلا بالمظاهر، فإن الكثيرات يرفضن العمل بمؤسسات حتى لا يتعرف عليهن أحد، لعل الحظ يبتسم لهن يوما ولا يردن لأحد أن يعرف طبيعة العمل الذي كن يمارسنه، خاصة وأن الكثير من الشباب يرفض الارتباط بمنظفة حتى وإن كن يعترفن أنه يصعب عليهن في الكثير من الأحيان إيجاد المكان المناسب والمريح، فالمرأة عادة ترفض توظيف صغيرات السن خوفا على زوجها وحتى على أولادها الشباب، فهن مراقبات في كل حركة ولا يسمح لهن بالدخول للبيت للعمل إلا بوجود الزوجة أو إحدى قريباتها، فتيحة طالبة جامعية سنة 3 حقوق واحدة من اللواتي رفعن التحدي لكسب قوتها بعرق جبينها، فكما تردد دائما كلام الناس لن يلبسني ولن يطعمني، غير نادمة مطلقا على قرارها وإن لم يسعفها الحظ بعد التخرج بالحصول على منصب عمل بشهادتها فستواصل العمل في التنظيف وكما تضيف لن أحمل هم الزوج، فخطيبها الذي ستزف إليه الصيف المقبل على دراية بالموضوع. سمية هي الأخرى التي تعيل أسرتها تعمل منذ عام في هذا الميدان بعد أن استنفذت كل السبل للحصول على عمل بشهادة التجارة. تعمل عند إحدى الموسرات تتكفل بكل أشغال البيت من تنظيف وطبخ غيره، فهي كما تحب أن تصنف نفسها مدبرة منزل، ورغم أن صديقتها الحميمة التي تخرجت معها، لامتها في البداية على قرارها وأنه ينبغي التريث قليلا، فلا يعقل بعد سنوات الدراسة الطوال أن تقوم بخدمة نساء لا يتوفرن حتى على مستواها، لكن مؤخرا هي الأخرى أصبحت تعمل كمنظفة أمام عجز والدها على مساعدتها في التحضير لجهاز عرسها وبما أنها ستتزوج الصيف المقبل، فقد قررت العمل لكن دون أن تخبر خطيبها لأنه أكيد سيرفض عملها وإن لم ينفصل عنها سيسخر منها ذات يوم، جامعيات تحررن من «عقدة المجتمع» ورضخن للأمر الواقع، لكن رغم علمهن بوجود مؤسسات متخصصة في توفير العمل للمنظفات بأجور مغرية وبمؤسسات محترمة إلا أنهن رفضن الالتحاق بها والعمل عن طريقها، فأوضاعهن كما يؤكدن، ستتحسن وسيصبحن يوما ما إطارات بمؤسسات كبرى. مؤسسات متخصصة لتلبية الطلب المتزايد الكثير منا يتذكر المسلسل المصري «بعد الفراق» الذي أدت فيه دور البطولة وبامتياز "سكرة"، الفنانة التونسية «هند صبري» التي أجبرتها ظروفها الصعبة على العمل كمنظفة بالعديد من البيوت، لتقودها إرادتها الفولاذية وحبها الكبير لرئيس التحرير الذي تزوجها حبا وطلقها بسبب نظرة المجتمع إلى تحقيق نجاح خرافي بعد أن وظفت خبرتها وأقامت مؤسسة سمسرة تلعب دور الوسيط بين الباحثات عن عمل كمنظفات والعائلات التي تحتاج لخدماتهن، ليلهم المسلسل على ما يبدوا العديد من المستثمرين خاصة الشابات واللواتي حصلن حتى على قروض وأقاموا مؤسسات متخصصة، تستقبل السيرة الذاتية لطالبات العمل كمنظفات وبعد التحري عنهن، خاصة في ما يخص جانب الأمانة، تقوم بتوظيفهن، حسب ما يرد إليها من طلبات والتي تبقى المؤسسات والإدارات أهمها، كما توجد أيضا مؤسسات توفر خدمات لربات البيوت، فيكفي الاتصال بها وترك شروط الخادمة، ليتم توفيرها في أقرب وقت، مؤسسات حققت نجاحا كبيرا خاصة أمام الطلب الكبير على المنظفات وحتى مع تزايد من يرغبن في العمل في هذا الميدان بعد أن عجزن على إيجاد غيره حتى وإن كن جامعيات. مؤسسات ما كانت لتكون لولا الحاجة الملحة من الجانبين من المرأة التي أنهكتها المصاريف وأجبرتها على العمل بأي شيء يدر عليها المال، خاصة وأنه حتى شهادتها موقوفة النفاذ إلى حين، وأيضا من المؤسسات وربات البيوت اللواتي وجدن أنفسهن تائهات بين البيت والعمل.