بقول الشاعر بدأ صديقي الأستاذ كلامه اليوم: ما كل ما فوق البسيطة كافيا..فإذا قنعت فكل شيء كاف! القناعة هذه الكلمة الجميلة التي تدخل السكينة في القلب بمجرد سماعها، لم تعد متداولة في حاضرنا، وكأنها مرفوعة، فلا أثر لها في حياة الناس، حل محلها عدم الرضا، الذي طبع كل تصرفاتهم . انظر إلى هذا الشاب الذي وجد عند ولادته حضنا دافئا، لم يتركه يطيل بكاءه أكثر من لحظات، لإشباغ حاجاته من مأكل ومشرب وملبس... وسارت به الأيام إلى أقعدته مقاعد الدراسة، ودرس إلى أن صار متعلما، يحمل شهادة علمية تؤهله للعمل وكسب عيشه. وتوفرت له ظروف التوظيف، واحتل مركزا يحسد عليه، وفي نهاية الشهر لما سحب أجرته من حسابه الجاري، احتار أين يضعها، وكيف يوزعها على مطالبه الكثيرة، منها الملحة ومنها ما يمكن الاستغناء عنه إلى حين، أو نهائيا. ولأن نفسه التي لا تعرف حدودا، منذ نشأتها، لم ترض بهذا الراتب الذي لا يلبي كل حاجياته دفعة واحدة، راح يلعن تلك الأجرة وتلك الوظيفة وتلك المؤسسة و...، نما في نفسه شعور بعدم الرضا، وهاهو يكفر بكل شيء، و صار لا يفكر سوى في الانتقام من هذا الواقع الذي يعيشه، بالرحيل إلى أي مكان آخر يضع بين يديه خزائن قارون، ومحا مرة واحدة كل ما تعلمه على مقاعد الدراسة، مما يعتبره قيودا لحريته، يجب التمرد عليها بالارتماء في أحضان المجهول غير المعروف العواقب... قاطعت صديقي الأستاذ وقلت له: لا طعم لأي شيء.. ذلك هو الشعور الذي استعصى علي فهمه، ورب يستر من مستقبل، ناسه ألغوا من أنفسهم كل القيم الأخلاقية التي تخلق التوازن والانسجام في حياتهم!