الحرڤة ظاهرة متواجدة عالميا، وهي دلالة على الهجرة غير الشرعية وتنتشر في المجتمعات التي تعاني من الاضطرابات ومن أوضاع غير متوازنة، وقد اشتهرت سابقا في دول أمريكا الجنوبية، لتنفس في مراحل لاحقة وسط الأفارقة ثم تنتقل إلينا كإفرازات من المأساة الوطنية التي عايشناها في سنوات التسعينيات، وقد كانت في السابق أشكال أخرى للهجرة غير الشرعية كالاختباء في البواخر التجارية وبواخر المسافرين وكذا اختراق الحدود، كما كان الحال مع الحدود الجزائرية المغربية، وذلك بتواطؤ بعض الأشخاص الذين يتكفلون بتأمين الطريق مقابل مبالغ محددة. وقد كان ذلك على فترتين قبيل سنة 1988 أين كانت العلاقات مقطوعة بين الجزائر والمغرب، وبعد سنة 1994، وهو التاريخ الرسمي لغلق الحدود بين البلدين، وجاء هذا القرار بعد اتهام المغرب للمخابرات الجزائرية بتدبير العمليات الإرهابية التي استهدفت فندقا بمدينة مراكش وتم فرض آنذاك التأشيرة على الجزائريين، فكان رد السلطة الجزائرية وعلى رأسها الرئيس اليمين زروال غلق الحدود نهائيا. والمستنتج من متابعة حركة المخترقين للحدود المغربية، أن جلهم يبحثون عن مخرج أو منفذ لعلهم يصلون من خلاله إلى أوروبا نتيجة نفور جل السفارات والقنصليات من أرض الوطن، فكانت الوجهة كل من مدينة سبته وإمليلية الإسبانية التي شيدت بها مخيمات خاصة بالشعوب الفقيرة والشعوب التي تحتضر من تمزيق الحروب، ومن بين هذه الشعوب الشعب الجزائري الذي عانى آنذاك لفترة دامت أكثر من 10 سنوات رعب الارهاب، البطالة، تردي الأوضاع الاجتماعية وما شبه ذلك. ففي هذه الفترة، عرفت هذه المخيمات التي يشرف عليها الصليب الأحمر الإسباني إقبال وتهافت المئات من العائلات، ونستطيع القول آلاف، وذلك من خلال الأرقام التي صرحت بها مصادر رسمية إسبانية سنة 1999، حيث تم إحصاء معالجة وتسوية أكثر من 3 آلاف ملف لاجئ جزائري، فهذه العملية أعطت آفاقا واسعة وطموحات كبيرة وسط الشعوب الفقيرة المجاورة. الموقع الجغرافي للجزائر أهلها لتصبح منطقة عبور هامة ففي مطلع الألفية، تحوّلت الجزائر إلى منطقة عبور، وذلك لموقعها الجغرافي الاستراتيجي والمطل على البحر الأبيض المتوسط، حيث شهدت تلك الفترة توافدا، بل نقول غزو المئات من القوافل المهاجرة من مختلف الجنسيات الإفريقية التي قدمت من أقصى الجنوب بعد أن تخطت جملة من العراقيل والصعوبات بواسطة وسائل نقل بدائية شاقة، همها الوحيد تذوق طعم اسمه "الهدة"، أي الهجرة غير الشرعية التي كانت شائعة آنذاك في أوساط الجزائريين. وقد تمركز المهجرون الأفارقة الذين جمعهم نفس الهدف الذي كان في صميم الجزائريين، أي الوصول إلى الضفاف الأخرى. وبعد تخطيهم التراب والحدود الجزائرية، شيدوا معسكراتهم الخاصة بهم وسط أحراش والغابات بكل من جبل "قرقر" وغابة "ماري واري" الواقعة على التراب المغربي والمطلة على مدينة امليلية التي تبعد عن الحدود الجزائرية بحوالي 180 كيلومتر، فيما فضل البعض الآخر التوغل أكثر داخل التراب المغربي والتوجه إلى غاية النقطة "كاست ياخو" الحدودية التي تجمع المغرب بمدينة سبته الإسبانية، فهذه المحطات كانت بمثابة نقطة النهاية وتبخر أحلام العديد من الأفارقة، خاصة بعد التعليمات الصارمة التي أصدرها السلطات المغربية بشأن الأفارقة والتي تشدد على منع التعامل مع ما أسموهم بالزنوج، إلى جانب منع هؤلاء الأشخاص من التجول داخل المدن والقرى، عكس الجزائريين الذين كانت تجمعهم بأشقائهم المغاربة عدة نقاط مشتركة، أولا اللغة، الدين والعقيدة، ثانيا الجوار والتبادلات التجارية، على غرار التعاملات وكيفية العبور إلى الأراضي الإسبانية، حيث كانت الطريقة الوحيدة بالنسبة للجزائريين لاجتياز هذه النقاط، إما عن طريق استعمال وثائق التشبيه أو استعمال الوثائق المزورة، وهي نادرا ما تحصل. أما بالنسبة للأفارقة، فالفرص كانت بالنسبة لهم جد ضئيلة، وغالبا ما تكون إيجابية، فالوسيلة الوحيدة التي كانوا يعتمدون عليها لاجتياز السياج الفاصل بين الحدود الذي يبلغ ارتفاعه 6 أمتار المدعم بأجهزة إنذار جد متطورة وكاميرات حرارية، هذا على غرار الدوريات المكثفة والمستدامة، وإما التسلل داخل الشاحنات التي تقل مواد البناء كالرمل والحصى وشبه ذلك. الجيش المغربي يستعمل معدّاته الحربية لصد مسار المهاجرين والعدالة الجزائرية تقاضي شرطيا وعون حماية ب 20 سنة سجنا غيابيا فيما بين سنة 2002 وسنة 2004، حدثت تغيرات كبيرة على مستوى المسار والوجهة، وهي الفترة التي عرفت فيها تمرد اللاجئين الأفارقة الذين أرهقهم الحصار وسياسة التجويع الذي فرضتها السلطات المغربية وكذا سلسلة عمليات التمشيط والمداهمة التي شنها الجيش الملكي على معاقل اللاجئين بالجبال الذين استعصى عليهم اجتياز ارتفاع السياج الفاصل بين المغرب والأراضي الاسبانية. وفي نفس الفترة، أي في شهر أوت من سنة 2003، لكن هذه المرة نعود إلى الوراء ونرجع إلى التراب الوطني وبالتحديد إلى منطقة بني صاف التابعة لإقليم ولاية عين تيموشنت "نشرت الصحف الوطنية بالبنط العريض على إقدام شرطي وعون حماية باجتياز البحر الأبيض المتوسط على متن دراجة مائية بطريقة غير شرعية، بعد أن قاما بالنصب على صاحبها وحاولا قتله من خلال اعتدائهما عليه ورميه في عرض البحر غير بعيد عن جزيرة ليلى، واللذان صدر في حقهما حكم أمر بالقبض وعقوبة 20 سنة سجنا غيابيا، شهرين بعد عمليتهما الشنيعة". فهذه الحادثة نالت إعجاب وتساءل العديد من الشباب الفضوليين الذين لم يصدقوا الواقعة، والتي كانت بالنسبة لهم آنذاك الحادثة بمثابة المجازفة والتحدي ليس بالنسبة للنظام، بل للطبيعة البحرية. لنعود مجددا ونطلع على أحوال المهاجرين غير الشرعيين "الأفارقة" بالحدود، وذلك كان في أواخر سنة 2004، وهي السنة التي شهدت اضطرابات جوية وانخفاضا في درجة الحرارة، فهذه العوامل المناخية والحصار المفروض عليهم ولّد ضغطا وسط حوالي 4200 شخص من شتى الجنسيات والديانات "الإرهاق، التعب، الجوع، المرض، وسلسلة التوقيفات"، كل هذه العوامل ولّدت انفجارا وتمردا، وكان ذلك في مطلع سنة 2005. تمرد الأفارقة المهاجرين والسلطات الإسبانية تعلن حالة طوارئ السلطات الاسبانية تعلن حالة طوارئ قصوى، فضلا عن جارتها المغربية التي جندت لواء بأكمله من الجيش تحت قيادة ضابط سامي برتبة عقيد، وهو قائد محافظة الناظور. كل هذه الترتيبات من أجل صد النازحين الذين أعلنوا تمردهم وهاجموا المواقع الحدودية وتمكن المئات منهم اختراق هذه النقاط بالقوة، فهذا التصرف الذي اعتبرته السلطات الاسبانية بالاحتكاري لنظامها، فقررت غلق المخيمات والمعسكرات المخصصة لشعوب العالم الثالث، في حين كثف الجيش المغربي من عمليات التمشيط والتي استغرقت لأكثر من أسبوع، استعملت فيها شتى الوسائل الحربية كالمروحيات والكلاب المدربة. وفي هذه الفترة، أعلن المسؤول قائد العملية بعبارة "اقتلوا هذه القرافة". وفور هذه التصريحات التي انتقدها الرأي العام آنذاك، أقدم الجنود على استعمال الذخيرة الحية لوقف هذه المطاردة الشاقة وسط تضاريس جد صعبة، والتي أسفرت عن مقتل العشرات من النازحين الفارين من أطفال ونساء وشباب، إلى جانب توقيف أكثر من ثلاثة أرباع من المتمردين الذين اقتيدوا على متن الشاحنات تم ترحيلهم في أوضاع جد مزرية إلى الصحاري، أين هلك أغلبهم من شدة التعب والعطش. هكذا انتهى أكبر مسلك مؤدي إلى أرض الأحلام الأوروبية والذي عبره الآلاف من الأشخاص البعض فلحوا في تحقيق الحلم والبعض أخفقو إما أعيد ترحيله وإما لقي حتفه وانطفأت شمعة أحلام العديد من الشباب، وعلى رأسهم الشباب الجزائري الذي أجبر اضطراريا على تطليق عبارة... "الهدة"... ودخل في دوامة وفترة نقاهة يسودها القلق والروتين القاتل حسب بعض الشهادات التي جمعناها آنذاك والذين وصفوا الوضع أو الحالة بالأسر أو بالسجن المفتوح. وبعد مرور قرابة ستة أشهر، خطرت لسكان منطقة بني صاف والقرى المجاورة لها فكرة أحدث ضجة إعلامية كبيرة خلال سنوات قليلة خلت، ألا وهي فكرة الإبحار خلسة إلى الضفاف الاسبانية، لكن هذه المرة ليس عن طريق الدراجات المائية، ولكن باستعمال قوارب صغيرة لا يتعدى طولها الأربعة أمتار ونصف المتر، والتي بإمكانها نقل مجموعة صغيرة من الأفراد التي لا يفوق عددهم ال 14. واستمرت هذه العملية التي نالت رواجا كبيرا في أوساط شباب المنطقة الميسور، إلى غاية أول كارثة إنسانية سجلتها فرق حراس السواحل، وكان ذلك صبيحة عيد الأضحى، أجسام وجثث هامدة تطفو فوق سطح البحر لشباب كان همهم الوحيد البحث عن حياة سعيدة وردية من وراء المتوسطي. تشيع جنازة "الهدة" وازدياد مصطلح الجديد اسمه "الحرڤة" فهذه الحادثة المأساوية التي استهدفت 11 شابا والتي انحنى لها المسؤولين والذين نددوا بالفعلة والتي وصفوها بالمؤسفة والانتحارية في ذات السياق، فتحت هذه الأخيرة شهية أغلبية الشباب البطال بالجهة الغربية للوطن، وحينها بدأت تعرف السواحل الغربية نزوح العشرات من الشباب المغامر الذي أصر على خوض تجربة جديدة تنقذه من الواقع المعاش... ألا وهي ظاهرة "الحرڤة" التي تتم بكيفيات مختلفة وتمثل نشاط جماعات وأشخاص وجدوا المجال للثراء باستغلال الشباب الراغبين في مغادرة التراب الوطني. فهذه الظاهرة الحديثة مست واستهدفت فئات مختلفة أيضا، فهي لم تقتصر على مراحل معينة، بل مست الأطفال والشباب وحتى الكهول، ومست كلا الجنسين، ولم تقتصر على الفقراء والعاطلين، بل تم تسجيل وجود ميسوري الحال من موظفين ومن أصحاب الشهادات العليا، وهذا ما يمثل دلالة على وضع اجتماعي يستدعي معالجته أكبر من المعالجة الأمنية. إفشال رحلة 1667 حراڤ والبحر يلتهم 83 مهاجرا جزائريا فمن خلال الأرقام المرعبة والإحصائيات التي تمكنا من جمعها في تحقيقاتنا ومتابعتنا لآثار الحراڤة على الشريط الساحلي لغرب الوطن والذي دام سنوات عديدة، اكتشفنا أن النسب تدخل في منحنى غير متجانس، حيث سجلنا خلال سنة 2006 إفشال رحلة 202 حراڤا واسترجاع 26 زورقا وتوقيف 24 مهاجرا سريا ضبطوا داخل السفن والبواخر التجارية، بعد أن تسللوا خلسة قصد الالتحاق بالضفاف الأخرى. أما في السنة الموالية، أي في سنة 2007، فقد تقلص عدد المغامرين الموقوفين إلى 182 تم اعتراضهم على متن 14 زورقا في عرض المتوسطي من قبل سفن وعوامات قوات حراس السواحل وتوقيف 58 متسلل داخل السفن التجارية. لكن ما لم نفهمه؛ هو أنه في سنة 2008 وكأن الشباب عزف عن تبني سياسة "الحرڤة"، حيث ارتفع عدد الموقوفين إلى 311 حراڤا من خلال هذه العمليات حجز 27 زورق نزهة، كما أن في هذه المرحلة ولأول مرة تم اعتراض بنات حواء، أي الجنس اللطيف في عرض البحر بين "الحراڤة"، ومن بين هؤلاء النسوة طالبة جامعية تدرس بمعهد اللغات وحلاقة وسيدة، ربما قررن هؤلاء النسوة مقاسمة الرجال محنهم ولم لا؟ ولم تقتصر هذه السنة، أي 2008، على الشباب والنساء، بل حتى الأجانب كان لهم دور وبصمة في هذا النوع من المجازفة، حيث تمكن أفراد خفر السواحل من إفشال رحلة 11 أجنبيا، من بينهم شاب من جنسية مصرية وآخر إفريقي و9 أفغان الذين نجوا بأعجوبة من الهلاك رفقة رفقائهم جزائريين، وكان ذلك بعد تعطل محرك القارب الذي كان يقلهم. يحدث هذا، في الوقت الذي تمكنت فيه يقظة أعوان حراس السواحل من إحباط رحلة 21 متسللا داخل السفن الكبيرة سوى تجارية أومخصصة لنقل المسافرين. وفي ذات السياق، سجلت ذات المصالح خلال 7 أشهر فقط من السنة الجارية مقارنة بالسنوات الفارطة إفشال واعتراض 244 مرشحا للهجرة غير الشرعية. وفي هذا السداسي، سجلت أيضا أكبر نسبة للجنس اللطيف والذي بلغ عدد الموقوفات 6، أربع منهن طالبات جامعيات وأخرى قاصر وأخرى سيدة حامل، كما أحصت ذات المصالح توقيف 9 أشخاص داخل السفن الكبيرة. يتبع...