طاردته القذائف وهو جنين في بطن أمه .. نزح مرغما بعد أن دمرت العصابات الصهيونية بيته وقتلت أشقائه .. مثله مثل آلاف الفلسطينيين شرد وطرد من أرضه، فشب على أطلال وطن سليب وأمة ضعيفة، مشاعر قاسية خلقت مقاتلا شرسا، وبالقلم قدم صورة للفن المقاوم .. فأصبح واحد من أهم وأشهر كتاب السيناريو على المستوى العربي، لكن مأساة غزة جاءت لتترك أثرا غائرا في قلبه، فكان الجرح أقوى من الأمل، والهم أبلغ من القلم، انه الكاتب "هاني السعدي" صاحب روائع "الجوارح" و"الكواسر" و"البواسل" وغيرها من الأعمال التي زرعت مفهوم الفن النبيل، يطل علينا في شاشات رمضان المقبل بعمل كبير يكشف لأول مرة عن تفاصيل حصار غزة . = عمرك من عمر القضية الفلسطينية .. فهل تعاملت مع المأساة كقضية شخصية ؟ - بل كمأساة شعب، فلم أكن أسوأ حالا من الآلاف من أبناء وطني، حقا نشأت في واحدة من أفقر الأسر الفلسطينية، ونزحت كرها من فلسطين إلى دمشق عام 1948، بعد أن أستشهد أخوتي قبل أن تراهم عيناي، كنت ما أزال في بطن أمي التي سارت على الأقدام عشرات الكيلومترات تطاردها رصاصات العصابات الصهيونية، فولدت عام 1949 في مسجد يسمى البخاري في منطقة عين الكرش بدمشق، وفي صباي عملت كبائع جوال للخضر والفواكه لأعول أمي، ثم دخلت المدرسة فعملت وتعلمت في نفس الوقت، وقتها لم أفكر بعقل الطفل، بل بمنطق الرجل المسؤول عن أسرته، ومنذ السادسة وضعت هدفا واحدا بين عيني .. وهو الانتقام ممن شردوني وقتلوا أهلي . = وكيف اخترت وسيلة الانتقام ؟ - كنت مهتما بالكتابة منذ الصغر، وبدأت أشعر أنني أمتلك مواهب في التعبير، كتبت القصائد والأشعار عن القضية الفلسطينية ولاقت إعجاب الكثيرين وكان يرددها الفلسطينيون في المهجر والوطن، فاقتنعت بأن الكلمة سلاح هام في المواجهة مع العدو، وفي عام 1975 دخلت مجال التمثيل، وبدأت العمل بالتلفزيون والسينما، وكان من المفترض أن أكون ممثلا، لكن هاجس الكتابة ظل عالقا بداخلي، وشيئا فشيئا كتبت للإذاعة، وكان أول فيلم كتبته للسينما كان عام 1978 وهو فيلم "ليل الرجال" بطولة فريد شوقي وناهد شريف وإخراج حسن الصيفي، وبعد ذلك استقرت تجربتي على الكتابة للتلفزيون، وأول عمل تلفزيوني كتبته كان عام 1984 بعنوان "حارة نسيها الزمن"، وتوالت بعد ذلك أعمالي الأخرى . = لكن أعمالك تحديدا أثارت الجدل في الأوساط الثقافية والسياسية والفنية العربية ؟ - لأني قدمت لأول مرة الأدبيات الصادمة في مواجهة الاستحقاقات الاجتماعية والتاريخية المسكوت عنها ببعد تراجيدي، مما جعل الدراما في كثير من الأحيان تتمرد على ذاتها رافضة المرئيات الاستهلاكية التقليدية التي لا تساهم في إثراء عقل المواطن العربي، وبأسلوب جديد جعلت الكثير من الملامح الإبداعية تتأرجح بين الواقع والخيال . = لماذا غلب طابع الإسقاطات السياسية على أعمالك التي ناقشت القضية الفلسطينية ؟ - في صغري كنت عفويا معتقدا ومؤمنا بأن قضيتنا واضحة وتستحق القتال من أجلها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، لكن عندما تفتح عقلي على الواقع المر الذي نعيشه، وجدت أن الظلم والكيل بمكيالين والتآمر بمثابة سحب قاتمة تخيم على سماء القضية الفلسطينية، ولا أمل في انقشاعها، وأن شمس الحقيقة تحجب عمدا خلف ستائر سوداء ينسجها الشقيق قبل العدو، ظل القلم يستصرخ هذه المعاناة، تحاصره وتكبله حفنة من العملاء المهيمنين على الكثير من وسائل الإعلام العربية، فلم يكن أمامي سوى إعمال العقل، وخداع هؤلاء العملاء وأسيادهم، فسطرت الأعمال التي تناول القضية الفلسطينية بشكل مرمز، بإتباع أسلوب الإسقاطات السياسية، ومن هنا ابتكرت الفانتازيا، التي وصلت للمتلقي رغم أنف العدو وحلفاءه، وذلك على غرار "البركان" و"الفوارس" و"الموت القادم إلى الشرق" . = وهل توقف عطاءك للقضية الفلسطينية عند هذا الحد ؟ - القضية الفلسطينية لا تعرف الإفلاس، فآخر أعمالي مسلسل "سفر الحجارة" الذي أنجزته مؤخرا يحكي حياة أسر فلسطينية مقيمة في القدسالشرقيةودمشق، ورغم أنني كتبت هذا العمل منذ ست سنوات إلا أن محطة عربية لم تتجرأ على إنتاجه حتى الآن، والسبب طبعا معروف . = القضية الفلسطينية قضية كل العرب، فكيف يحاربها الإعلام العربي على حد وصفك ؟ - المحطات العربية لا تسمح لك أن تقول كل شيء طالما أن هناك شكلا ما من "السلام" المرتقب الذي يمكن أن يحصل مع العدو الصهيوني، لكن المثير للشفقة على أولئك أنهم حتى اليوم لم تستوعب عقولهم حقيقة لا غبار عليها وهى أن الصهاينة لا يريدون السلام، وأنهم يراوغون ويخدعون الشعوب العربية، وخلال السنوات الأخيرة تأكد العالم العربي بما فيهم الحكام أنه لا يوجد مشروع للسلام عند الصهاينة، وأنهم يسوفون ليأخذوا ما يريدون، وأصدق مثال على ذلك خطاب نتانياهو الأخير الذي كشف بما لا يدع مجال للشك أن "السلام" مع الصهاينة وهم كبير، ووبالرغم من ذلك للأسف فان المحطات العربية لا تقبل على شراء أي عمل يناقش بشكل واضح القضية الفلسطينية، لأن هناك أوامر من أمريكا بعدم التعاطي مع الأعمال التي تتعلق بالفلسطينيين، وبصراحة تامة هكذا تجري الأمور . = أنت صاحب اختراع "الفنتازيا" في الدراما العربية، فكيف ربطت هذا اللون بالتاريخ ؟ - أنا أخذ من التاريخ الأرضية والفترة التاريخية ولا أخذ حكاية الأشخاص الذين كانوا متواجدين في تلك الفترة، بمعنى أني أخترع حكاية لكنها تعيش في تلك الفترة من الزمن وعلى هذه الأرض، أفبرك حكاية من نسج الخيال لتكون قابلة لأن يصدقها المشاهد ويشعر أنها حدثت أو يمكن أن تحدث، فكتبت غضب الصحراء والبركان وهما عملان لاقيا نجاح عند الناس، لأنهم شعروا أن لهم علاقة بهذا التاريخ نفسه. = وماذا قصدت من وراء سلسلة "الجوارح، الكواسر، البواسل" ؟ - هذه الحكايات عربية وقابلة للتصديق، لكن المكان وطريقة التصوير غير صحيحة، فالعرب لم يسكنوا في خيم بجانب البحيرات، هناك بحيرات ويعني هذا أنه يجب أن تكون هناك بيوت من الخشب أو اللبن، وأن يكون هناك زراعة، وبذلك الزمن لم يكن هناك شهب نارية تطلق بالسماء، وألوان فسفورية كالتي نعرفها في عصرنا الحالي، هذه الأمور ابتكرها نجدت أنزور بإخراجه، صحيح أنها عملت تغريب عند بعض الناس، لكن الكثيرين أحبوا هذه الأعمال لأنها قدمت رؤية بصرية عالية مع المحافظة على الحكاية . = هل يعني نسج حكايات من الخيال هروبا من واقع مر ؟ - الفنتازيا كتعريف هي شيء لا يخضع للواقع، هي فوق الواقع وبإمكان الكاتب أو المخرج أن يسبح بالخيال دون التقيد بشيء منطقي حياتي، هذا بالشكل العام، ولكن عندما تدخل إلى جوهر الحكاية وإلى تفاصيلها تكتشف أنها قريبة من الوقع مع أنها من نسج الخيال ولا تعتمد على مكان وزمان، أما الإسقاطات فتأتي دائما حسب طبيعة الحكاية، هل الحكاية تحتمل أن نسقط عليها حسا وطنيا مثل أي شيء سياسي له علاقة بوضعنا الراهن أم لا، في مسلسل "البركان" كانت هناك هذه الإمكانية لأن الدول العربية كانت مشتتة مثل القبائل في العصور القديمة، فحاولت أن أدعوا إلى وحدة القبائل التي هي عمليا وحدة الدول المعاصرة للوقوف في وجه التيار الإمبريالي، والذي هو أمريكي وصهيوني في آن واحد، وكان هناك دعوة للوقوف بوجهه خاصة في وضعنا الحالي، ونحن كعرب لدينا سلاح هام هو البترول، وكم هائل من البشر ولكننا لا نستخدم أسلحتنا حتى الآن، ليس لأننا لا نجيد استخدامها، لكن لأننا آثرنا تنكيسها . = ولماذا توقفت عن تقديم الفانتازيا بعد مسلسل البواسل ؟ - لأني شعرت أن مسلسل البواسل فقد مصداقيته نتيجة حذف 258 مشهدا منه، فلم يعد هناك ارتباط بينه وبين المتفرج، فاتخذت موقفا بإيقاف هذا النوع من الأعمال مع نجدت أنزور، لأنني اكتشفت بعد عرض المسلسل لأول مرة أنه ذبح الفكرة من الوريد إلى الوريد، فحكمت أن الناس لن يحبوه وسوف يجدوا فيه فجوات عميقة، لذا قررت أن أتوقف عن كتابة كل الأعمال التي لها علاقة بالفنتازيا خاصة بعد أن تلقيت صدمة أقسى في مسلسل "آخر الفرسان"، ومن وقتها ألتفت للأعمال الاجتماعية، بعد أن تأكدت أني لن أكتب الفنتازيا مرة أخرى . = ارتبطت الفانتازيا عندك بالقضية الفلسطينية، فهل تخليت عن القضية ؟ - لن يحدث ذلك أبدا، حقا أعيش اليوم حالة من اليأس والألم ليس لفقداني الأمل في المستقبل، ولكن ترثيا على أمة بأكملها، ففي الماضي كنت أشعر أن المأساة تخص الفلسطينيين وحدهم، لكن اليوم وبعد ما أرتكب من مجازر في غزة، اكتشفت أن المأساة مأساة أمة صودرت مشاعرها وحوصر غضبها، أمة حكم عليها أن تقع تحت وطأة أسوأ استعمار عرفته في تاريخها، استعمار مخادع ينفذ فيه العدو أهدافه عبر أدواته في البلدان العربية الذين كرسهم فوق صدور الشعوب، أنا واثق أن الشعب الفلسطيني سينتصر، لكني متخوف على بقية الشعوب العربية . = لكن هذه الشعوب خرجت للشارع غير آبهة بحكامها لتعلن عن غضبها ونصرتها لأشقائهم الفلسطينيين ؟ - وهل وصل صوتهم لحكامهم؟، هل استجاب هؤلاء الحكام لبكائهم وصراخهم؟، وهل سمحوا لهم بالتعبير عمليا عن غضبهم ؟، هل فتحوا باب التطوع للقتال الشرعي والقانوني كي ينقذوا أشقائهم من بطش عدو سيعتدي عليهم يوما ما بعد أن يتخلص من المقاومة الفلسطينية؟، هذه الشعوب لا تزال شريفة مخلصة لأمتها، لكنها وقعت في أياد غير شريفة، لذلك أرى أن مأساتهم أكبر من مأساة الشعب الفلسطيني، ولذلك أنا متخوف عليهم، طالما أنهم لم ينتفضوا لإزالة الورم السرطاني الذي أوشك أن يصيب الجسد العربي كله حاكما ومحكوما . = أنت تحلم بالمستحيل، الشعب العربي ضعيف أعزل، وأولي الأمر متحصنين بترسانات عسكرية ودينية تطيح برأس كل من يفكر بمنطقك .. فهل لديك حلول أخرى أكثر عقلانية ؟ - العربي الحر ليس ضعيفا، ولا يتخلل الجبن أبدا إلى قلبه، لكن الحكام أو من أسميتهم زورا بأولي الأمر يمارسون البطش والقهر لإقناعنا بأننا ضعفاء وأنهم قوى لا تقهر، ويستخدمون المأجورين الذين باعوا ضمائرهم ودينهم ليحيطوهم بهالات التبجيل والتأليه، أما السلاح الذي كدسوه ليشاركوا عدونا في ذبحنا وسحلنا فسيكون وبالا عليهم، هذا هو الحل العاقل ليس سواه، فليت هناك من يسمع . = وماذا قدمت أنت على الأقل كمواطن عربي في هذه المرحلة الحرجة ؟ - قررت أن أقف في وجه الممنوع وتجاوزت الخطوط الحمراء التي تفرضها الفضائيات العربية على القضية الفلسطينية لأقدم أول وأضخم عمل درامي يرصد مأساة حصار غزة، والعمل هو "سفر الحجارة" الذي قلت لك أني كتبته منذ 06 سنوات، ثم أعدت صياغته وترتيبه ليصبح عنونا لملحمة غزة في الحصار، حيث أرصد مأساة الشعب الفلسطيني ومقاومته اليومية للاحتلال، ورغم أن العمل جاد وحاد، لكنه يحوي فسحات إنسانية راقية، فمع مشاهد القسوة والعنف والدمار يتوقف المشاهد أمام لحظات إنسانية دافئة للناس الذين يقاتلون ويتعرضون للعدوان" .