الكاتب هاني السعدي نزح تطارده الرصاصات وهو جنين في بطن أمه.. رحل بعد أن دمرت العصابات الصهيونية بيته وقتلت أباه وأشقائه.. مثله مثل آلاف الفلسطينيين شردته العصابات الصهيونية وطردته من أرضه، فشب على أطلال وطن سليب وأمة ضعيفة، مقاتلا شرسا بقلمه وفكره، قدم صورة للفن المقاوم.. فأصبح واحدا من أهم كتاب السيناريو، لكن مأساة غزة جاءت لتترك أثرا غائرا في قلبه، فكان الجرح أبلغ من القلم.. * * إنه الكاتب هاني السعدي صاحب روائع "الجوارح" و"الكواسر" و"البواسل" وغيرها من الأعمال التي زرعت مفهوم الفن العربي النبيل، والذي التقته "الشروق" في دمشق فكان لها معه هذا الحوار. * * * حياتك بدأت بمأساة بعمر القضية الفلسطينية.. فهل تعاملت مع المأساة كقضية شخصية؟ * - بل كمأساة شعب، فلم أكن أسوأ حالا من الآلاف من أبناء وطني، حقا نشأت في واحدة من أفقر الأسر الفلسطينية، ونزحت كرها من فلسطين إلى دمشق عام 1948، بعد أن استشهد أبي وإخوتي قبل أن تراهم عيني، كنت ما أزال في بطن أمي التي سارت على الأقدام عشرات الكيلومترات تطاردها رصاصات العصابات الصهيونية، فولدت عام 1949 في مسجد يسمى البخاري في منطقة عين الكرش بدمشق، وفي صباي عملت كبائع جوال للفواكه والخضر لأعول أمي، ثم دخلت المدارس، فعملت وتعلمت في نفس الوقت، وقتها لم أفكر بعقل الطفل، بل بمنطق الرجل المسؤول عن أسرته، ومنذ السادسة وضعت هدفا واحدا بين عيني.. وهو الانتقام ممن شردوني وقتلوا أهلي. * * * وكيف اخترت وسيلة الانتقام؟ * - كنت مهتما بالكتابة منذ الصغر، وبدأت أشعر بأنني أمتلك مواهب في التعبير، كتبت القصائد والأشعار عن القضية الفلسطينية ولاقت إعجاب الكثيرين وكان يرددها الفلسطينيون في المهجر والوطن، فاقتنعت بأن الكلمة سلاح هام في المواجهة مع العدو، وفي عام 1975 دخلت مجال التمثيل، وبدأت العمل بالتلفزيون والسينما، وكان من المفترض أن أكون ممثلا، لكن هاجس الكتابة ظل عالقا بداخلي، وشيئا فشيئا كتبت للإذاعة، وأول فيلم كتبته للسينما كان عام 1978 وهو فيلم "ليل الرجال" بطولة فريد شوقي وناهد شريف، وإخراج حسن الصيفي، وبعد ذلك استقرت تجربتي على الكتابة للتلفزيون، وأول عمل تلفزيوني كتبته كان عام 1984 بعنوان "حارة نسيها الزمن"، وتتالت بعد ذلك أعمالي الأخرى. * * * لكن أعمالك تحديدا أثارت الجدل في الأوساط الثقافية والسياسية والفنية العربية؟ * - لأنني قدمت لأول مرة الأدبيات الصادمة في مواجهة الاستحقاقات الاجتماعية والتاريخية المسكوت عنها ببعد تراجيدي، مما جعل الدراما في كثير من الأحيان تتمرد على ذاتها رافضة المرئيات الاستهلاكية التقليدية التي لا تساهم في إثراء عقل المواطن العربي، وبأسلوب جديد جعلت الكثير من الملامح الإبداعية تتأرجح بين الواقع والخيال. * * * لماذا غلب طابع الإسقاطات السياسية على أعمالك التي ناقشت القضية الفلسطينية؟ * - في صغري كنت عفويا معتقدا ومؤمنا بأن قضيتنا واضحة وتستحق القتال من أجلها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، لكن عندما تفتح عقلي على الواقع المر الذي نعيشه وجدت أن الظلم والكيل بمكيالين والتآمر بمثابة سحب قاتمة تخيم على سماء القضية الفلسطينية، ولا أمل في انقشاعها، وأن شمس الحقيقة تحجب عمدا خلف ستائر سوداء ينسجها الشقيق قبل العدو، ظل القلم يستصرخ هذه المعاناة، تحاصره وتكبله حفنة من العملاء المهيمنين على الكثير من وسائل الإعلام العربية، فلم يكن أمامي سوى إعمال العقل، وخداع هؤلاء العملاء وأسيادهم، فسطرت الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية بشكل مرمز، باتباع أسلوب الإسقاطات السياسية، ومن هنا ابتكرت الفانتازيا، التي وصلت للمتلقي رغم أنف العدو وحلفائه، وذلك على غرار "البركان" و"الفوارس" و"الموت القادم إلى الشرق". * * * وهل توقف عطاؤك للقضية الفلسطينية عند هذا الحد؟ * - العمل الذي قدمته مؤخرا يثبت أن القضية الفلسطينية لا تعرف الإفلاس، فمسلسل "سفر الحجارة" يحكي حياة أسر فلسطينية مقيمة في القدسالشرقيةودمشق، ورغم أنني كتبت هذا العمل منذ ست سنوات إلا أن محطة عربية لم تتجرأ على إنتاجه حتى الآن، والسبب طبعا معروف. * * * القضية الفلسطينية قضية كل العرب، فكيف يحاربها الإعلام العربي على حد وصفك؟ * - المحطات العربية لا تسمح لك بأن تقول كل شيء طالما أن هناك شكلا ما من "السلام" المرتقب الذي يمكن أن يحصل مع العدو الصهيوني، لكن المثير للشفقة على أولئك أنهم حتى اليوم لم تستوعب عقولهم حقيقة لا غبار عليها وهي أن الصهاينة لا يريدون السلام، وأنهم يراوغون ويخدعون الشعوب العربية، وخلال السنوات الأخيرة تأكد العالم العربي بما فيه الحكام بأنه لا يوجد مشروع للسلام عند الصهاينة، وأنهم يسوفون ليأخذوا ما يريدون، وللأسف المحطات العربية لا تقبل على شراء أي عمل يناقش بشكل واضح القضية الفلسطينية، لأن هناك أوامر من أمريكا بعدم التعاطي مع الأعمال التي تتعلق بالفلسطينيين. * * * وماذا قصدت من وراء سلسلة "الجوارح"، "الكواسر" و"البواسل"؟ * - هذه الحكايات عربية وقابلة للتصديق، لكن المكان وطريقة التصوير غير صحيحة، فالعرب لم يسكنوا في خيم بجانب البحيرات، هناك بحيرات ويعني هذا أنه يجب أن تكون هناك بيوت من الخشب أو اللبن، وأن يكون هناك زراعة، وبذلك الزمن لم يكن هناك شهب نارية تطلق في السماء، وألوان فسفورية كالتي نعرفها في عصرنا الحالي، هذه الأمور ابتكرها نجدت أنزور بإخراجه، صحيح أنها عملت تغريب عند بعض الناس، لكن الكثيرين أحبوا هذه الأعمال لأنها قدمت رؤية بصرية عالية مع المحافظة على الحكاية. * * * هل يعني نسج حكايات من الخيال هروبا من واقع مر؟ * - الفنتازيا كتعريف هي شيء لا يخضع للواقع، هي فوق الواقع وبإمكان الكاتب أو المخرج أن يسبح بالخيال دون التقيد بشيء منطقي حياتي، هذا بالشكل العام، ولكن عندما تدخل إلى جوهر الحكاية وإلى تفاصيلها تكتشف أنها قريبة من الوقع مع أنها من نسج الخيال ولا تعتمد على مكان وزمان، أما الإسقاطات فتأتي دائما حسب طبيعة الحكاية، هل الحكاية تحتمل أن نسقط عليها حسا وطنيا مثل أي شيء سياسي له علاقة بوضعنا الراهن أم لا؟، في مسلسل البركان كانت هناك هذه الإمكانية لأن الدول العربية كانت مشتتة مثل القبائل في العصور القديمة، فحاولت أن أدعو إلى وحدة القبائل التي هي عمليا وحدة الدول المعاصرة للوقوف في وجه التيار الإمبريالي، والذي هو أمريكي وصهيوني في آن واحد، وكان هناك دعوة للوقوف بوجهه خاصة في وضعنا الحالي، ونحن كعرب لدينا سلاح هام هو البترول، وكم هائل من البشر ولكننا لا نستخدم أسلحتنا حتى الآن، ليس لأننا لا نجيد استخدامها، لكن لأننا آثرنا تنكيسها. * * * ولماذا توقفت عن تقديم الفنتازيا بعد مسلسل البواسل؟ * - لأني شعرت أن مسلسل "البواسل" فقد مصداقيته نتيجة حذف 258 مشهد منه، فلم يعد هناك ارتباط بينه وبين المتفرج، فاتخذت موقفا بإيقاف هذا النوع من الأعمال مع نجدت أنزور، لأنني اكتشفت بعد عرض المسلسل لأول مرة أنه ذبح العمل من الوريد إلى الوريد، فحكمت أن الناس لن يحبوه وسوف يجدوا فيه فجوات عميقة، لذا قررت أن أتوقف عن كتابة كل الأعمال التي لها علاقة بالفنتازيا، وأن ألتفت للأعمال الاجتماعية نتيجة صدمة "البواسل" والتي أعقبتها صدمة أقسى في "آخر الفرسان"، فتأكدت أني لن أكتب الفنتازيا بعد الآن. * * * لكن هذه الشعوب خرجت للشارع غير آبهة بحكامها لتعلن عن غضبها ونصرتها للفلسطينيين؟ * - وهل وصل صوتهم لحكامهم؟ هل استجاب هؤلاء الحكام لبكائهم وصراخهم؟ وهل سمحوا لهم بالتعبير عمليا عن غضبهم ؟ هل فتحوا باب التطوع للقتال الشرعي والقانوني كي ينقذوا أشقاءهم من بطش عدو سينقلب عليهم يوما بعد التخلص من المقاومة الفلسطينية؟ هذه الشعوب لا تزال شريفة مخلصة لأمتها، لكنها وقعت في أياد غير شريفة، لذلك أرى أن مأساتها أكبر من مأساة الشعب الفلسطيني، ولذلك أنا متخوف عليها طالما أنها لم تنتفض لإزالة الورم السرطاني الذي أوشك أن يصيب الجسد العربي كله حاكما ومحكوما. * * * أنت تحلم بالمستحيل، الشعب العربي ضعيف أعزل، وأولو الأمر متحصنون بترسانات عسكرية ودينية تطيح برأس كل من يفكر بمنطقك.. فهل لديك حلول أخرى أكثر عقلانية؟ * - العربي الحر ليس ضعيفا، ولا يتسلل الجبن أبدا إلى قلبه، لكن الحكام، أو من أسميتهم زورا بأولي الأمر، يمارسون البطش والقهر لإقناعنا بأننا ضعفاء وأنهم قوى لا تقهر، ويستخدمون المأجورين الذين باعوا ضمائرهم ودينهم ليحيطوهم بهالات التبجيل والتأليه.