كشفت حرب 2006 عن جملة من الخيانات في الصف العربي، وفضح أسلوب التعاطي الإعلامي مع الحرب تلك الخيانات، ولكن في المقابل نجح الإعلام المقاوم في تسجيل نصر كبير ومحسوب على الترسانة الإعلامية الصهيونية وأذيالها عربيا، فكان وقع الهزيمة أشد مرارة على العدو. سنبدأ في هذه الحلقة في التعرف على الحرب النفسية أو الإعلامية، والتي كانت معارك 2006 ساحة كبيرة لها، ومن المعروف أن الصهاينة هم من ابتكروا هذا النوع من الحروب حتى إنهم اكتشفوا في وقت مبكر أهمية الإعلام ودوره في خدمة مشاريعهم الاستعمارية والعدوانية، ومن هنا نرى سيطرة صهيونية كبيرة على معظم وسائل الإعلام العالمية، لكن في حرب 2006 سقطت الهيمنة الصهيونية على الإعلام العالمي، وهزمت "إسرائيل" لأول مرة في الحرب النفسية، ويعد هذا الانتصار من أهم انتصارات العرب، بل ومؤسس لحقبة جديدة من الصراع العربي الصهيوني. هناك حقيقة هامة تستحق الوقوف عندها، لأن الكيان الصهيوني نفسه يحاول إنكارها والتعتيم عليها، ففي الداخل الصهيوني يشكل الإعلام فيلقا مساندا للفيالق العسكرية وينفذ تعليمات القادة العسكريين، سواء في التعبئة الداخلية أو التحريض ضد العرب، كما تمارس القيادات العسكرية دورا أمنيا دقيقا على الإعلاميين الأجانب، حيث تحظر عليهم الاقتراب من مواقع القتال فوق الأرض، أو الاقتراب من أماكن سقوط صواريخ "حزب الله" في المدن والبلدات الصهيونية، حتى لا يتم الكشف عن مدى دقة إصابة تلك الصواريخ، وبالتالي حرمان حزب الله من الحصول على معلومات دقيقة عن الأهداف العسكرية أو البنى التحتية التي استهدفها، كما أن الرقابة العسكرية الصهيونية تدقق على رسائل الإعلاميين العرب، لأنهم يعتبرونها بوقا إعلاميا للفيلق الإعلامي العربي الذي يؤيد حزب الله، ونذكر أنه أيام الحرب تم اعتقال مدير مكتب الجزيرة لمدة من الزمن، في رسالة تهديد لكل الإعلاميين الآخرين، ولذلك كانت الصور من داخل "إسرائيل" صورا بعيدة جدا تلتقطها العدسات عن بعد، وكل الصور التي شاهدناها كانت من مصدر "إسرائيلي"، والمقصود منها إظهار "حزب الله" بالمعتدي الذي يستهدف المدنيين وبالذات من السكان العرب، ومن ثم إثارة الرأي العام العالمي ضد المقاومة وضد العرب والمسلمين، وتحريض "عرب إسرائيل" ضد حزب الله باعتبار أن صواريخه لا تفرق بين يهودي وعربي. وينطلق الإعلام الصهيوني من عقيدة توراتية، تدعو إلى العنف ضد الآخرين من "الغوييم" أي أبناء الأمم الأخرى والعرب بالطبع على رأسهم، فقتلهم لا يثير شفقة، بل يرضي قناعات اليهود سواء الساكنين في فلسطين أو في بقاع العالم، وبالمقابل يعمل الإعلام الصهيوني بعامة على استثارة عطف الرأي العام العالمي على "إسرائيل" من خلال عرض الخسائر البشرية والمادية، وتضخيم تلك الخسائر، لكي تصبح فيما بعد فاتورة مالية واجبة الدفع من قبل الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغنية المانحة والمؤسسات الاقتصادية الصهيونية في العالم. وفي إطار الالتزام بالسياسات العامة للقيادات الصهيونية، المدنية والعسكرية، فإن الإعلام الصهيوني لم يضخم أنباء التنقلات التي حصلت في قيادات الجيش، بل نقلت تلك الأنباء من دون إخلال بالتعليمات وبالسقف المسموح به في التناول الإعلامي أو التحليل والنقد، وهذا الالتزام الدقيق ينفي تلك النظرة أو الانطباع المأخوذ عن حرية الإعلام الصهيوني. وفي حرب 2006 شارك الإعلام الحربي الصهيوني بكل قوة في معركة الحرب النفسية ضد "حزب الله" وضد اللبنانيين عامة، وقد استخدم أساليب معروفة في الحرب النفسية، في مقدمتها قذف المنشورات من الطائرات أو بالمدفعية، تدعو المواطنين اللبنانيين إلى النزوح من ديارهم، وقد أجدى هذا الأسلوب الذي ترافق مع فعل ميداني إرهابي ضد المدنيين، حيث ارتكبت القوات الصهيونية عشرات المجازر في المدن اللبنانية، وعليه فإن القصف المبرمج هو الذي أجبر المدنيين على النزوح وليس المنشورات فحسب، بل ترافق مضمون المنشورات مع الفعل العسكري، وهذا ما حصل في قطاع غزة، إذ يتم إنذار ساكني المنزل بالهاتف للرحيل عنه خلال ساعة، وما تمضي نصف ساعة أو أقل حتى يتم قصف المنزل. كما تهدف المنشورات الصهيونية إلى "تفريد الخصم"، أي استثارة المواطنين اللبنانيين ضد "حزب الله"، بدعوى أنه كان السبب في ما أصابهم عندما قام بأسر جنديين "إسرائيليين"، ولكن صوت المواطنين اللبنانيين كان أعلى وأقر بأن "إسرائيل" هي المجرمة، إذ لا يعقل أن يدمر بلد بالكامل ويقتل شعبه بالألوف ويشرد بالملايين لمجرد أسر جنديين، فهذه المنشورات لم تحقق الهدف الأساسي من قذفها، بل زادت من التفاف اللبنانيين حول بلدهم وقيادتهم الموحدة. وبالمقابل، فإن الفيلق الإعلامي العربي ممثلا في بعض الفضائيات العربية، كان الند القوي للفيلق الصهيوني، ويقف في مقدمة الفيلق العربي، قناة "المنار" الناطقة باسم "حزب الله". ورغم أن الطيران الصهيوني قد دمر مبنى "المنار" في الضاحية الجنوبية من بيروت، إلا أن صوت "المنار" ظل قويا يتسم بالهدوء والموضوعية، ويعتمد المعلومة الدقيقة سواء من بيانات "حزب الله"، أو من رصد الإعلام الصهيوني دقيقة بدقيقة. كما أثبت "حزب الله" قدرته على التخفي تحت الأرض، فقد تمكنت قناة "المنار" من الاختفاء عن عيون الرصد الصهيوني، والملفت للنظر أن شبكة مراسلي الفضائيات العربية غطت مناطق القتال البري في جنوب لبنان وأماكن القصف الجوي في بيروت والبقاع والشمال والساحل، وبرز صوت صحافيات عربيات غالبيتهن من لبنان، غطين مجريات الحرب بكل جرأة وثبات وإقناع، والحقيقة الأسطع هي أن نجاح فيلق الإعلام العربي، ما كان بهذه الصورة لولا صمود "حزب الله" وتحطيم أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، وكذلك لولا الرؤية الواقعية والثورية لسيد المقاومة حسن نصر الله، الذي اقترن قوله بالفعل الميداني الدقيق والذي تعايش مع آلام اللبنانيين، وبهذا الصمود الأسطوري نجح فيلق الإعلام العربي في مواجهة فيلق الإعلام الصهيوني. هنا نجد أنفسنا مجبرين للحديث عن قناة "المنار" التابعة لحزب الله، والتي يعتبرها العدو من أشد الأسلحة فتكا بمعنويات جنوده والشعب الصهيوني، وكان لاستمرار بث "المنار" بعد تدمير المبنى خلال الحرب، دليلا آخر على انتصار المقاومة، لهذا شكلت قناة "المنار" أحد أهم الأهداف التي وضعتها "إسرائيل" في ما يسمى "بنك الأهداف المشمولة بالتدمير"، لذا تم استهدافها بالقصف الوحشي بهدف إسكاتها عام 2006. لكنها ورغم تدمير مبناها استمرت في العمل، فقد كانت المحطة مستعدة لمثل هذه الاحتمالات، فتم إخلاء العاملين غير الضروريين منذ اللحظة الأولى التي اندلعت فيها الحرب، فيما انتقل الآخرون إلى أماكن تحت الأرض، كما تمكنت القناة من معاودة البث بعد توقف لدقائق معدودة فقط عندما تم تدميرها، وذلك عبر استديوهات شيدت قبيل الحرب بسرية شديدة تحت الأرض. وفي هذا الإطار، يقول الإعلامي الصهيوني "آورن نهاري" إن حزب الله هو الأكثر خبرة في استخدام الإعلام، وبالأخص الإعلام التلفزيوني الذي يرتكز على الكاريزما التي لا يمكن نفيها لحسن نصر الله، حيث اللعبة المحسوبة والفعالة جدا التي يقوم بها نصر الله. الصهاينة أنفسهم يقرون بشراسة وقساوة الإعلام المقاوم الذي تجسده قناة "المنار". ففي دراسة حديثة أعدها نخبة من الخبراء بموقع "أوميديا" الإلكتروني الصهيوني، جاء أن صمود قناة "المنار" في وجه الترسانة العسكرية الصهيونية أثناء حرب 2006 كان من أكثر الأسلحة النفسية فتكا بمعنويات الإسرائيليين، وقال "شاؤول تسدكا" المتحدث باسم حركة الأمهات الأربع الإسرائيلية، إن حزب الله أدار الحرب ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي على الجبهتين، العسكرية والنفسية، ووجه جزء كبيرا من دعايته إلى الداخل الإسرائيلي وكانت يده هي العليا في هذه الحرب النفسية. وأشارت الدراسة إلى أن تدمير مبنى قناة "المنار" فى حرب 2006، كان أحد أهم الأهداف التي وضعتها قيادة الجيش الصهيوني لشدة تأثير هذه القناة على الصهاينة أثناء سنوات المقاومة ضد الاحتلال وبعد اندلاع الانتفاضة فى الأراضي الفلسطينية، في رفع مستوى المطالبة بالانسحاب من لبنان. ووصفت الدراسة قناة "المنار" ب "الماكينة الممتازة للحرب"، فقد كان لديها خطط مفصلة حول كيفية التصرف أثناء هذه الظروف، إذ قامت بإخلاء العاملين غير الضروريين منذ اللحظة الأولى للحرب، بينما نقلت الآخرين إلى أماكن تحت الأرض، كما أنها تمكنت من معاودة البث بعد دقائق فقط من أماكن سرية تحت الأرض. وأكدت الدراسة أن سلاح الجو الصهيوني واجه صعوبات كبيرة فى تدمير بنية البث الأرضي لقناة "المنار"، لعدم قدرته على تحديد أعمدة الإرسال الخاصة بالمحطة. وقالت الدراسة أيضا، إن الإنجاز الرئيسي لقناة "المنار" كان فى صمودها رغم شدة الغارات التي تعرضت لها والتي أثبتت بالدليل الحي أن حزب الله هو الذي انتصر. وخلصت الدراسة إلى أن على "إسرائيل" بذل كل ما في وسعها لإسكات "المنار" في أي حرب قادمة وعدم الاكتفاء بقصفها لإسكاتها، إنما يجب إيقاف بثها عبر الأقمار الصناعية وتشويش بث هذه الأقمار بكل قنواتها وتدمير أعمدة الإرسال الأرضي في بداية القتال، حتى لو كان الثمن تدمير أعمدة كل المحطات الأخرى. من المعروف أن قناة "العربية" خلقت بمال سعودي وبدعم أمريكي لتبييض صفحة النظام السعودي وضرب حركات المقاومة في الوطن العربي والدول الممانعة للمشروع الصهيوني، ولا يخفى على أحد أن قناة العربية تحظى بدعم مالي كبير من وزارة الدفاع الأمريكية، إلى جانب العديد من وسائل الإعلام العربية، ومنها قناتي "المستقبل" و"الأل بي سي". ومنذ اللحظات الأولى لحرب 2006، أعلنت قناة "العربية" السعودية الحرب على المقاومة، فالسعودية التي اختارت منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني على لبنان الوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني عبر البيان الفاضح لبندر بن سلطان، ثم إدانة حزب الله والمقاومة وتبرئة العدو من جرائمه، عبّرت عبر محطتها الأولى وقوفها بجانب "إسرائيل" ضد الأمة، لكن نتائج الحرب والانتصار الذي حققته المقاومة ضرب بعنف قناة "العربية" وكشف عن هويتها الصهيونية، فانحدرت لتصبح في مؤخرة المحطات العربية. ورغم ذلك، لا تزال هذه المحطة تمارس سياسة فرض الحصار على تداعيات انتصار المقاومة، معتبرة إياه خيارا استراتيجيا، فنظّمت عملية تشويه مكثفة لصورة المقاومة عبر إثارة المسائل المذهبية في لبنان والعراق وإقحام الملف النووي ضمن أتون فتنة مذهبية، وقد اعترف الصهاينة أنفسهم بدخولهم حلبة الصراع المذهبي تحت شعار "الدفاع عن أهل السنة"، وهو ما يتوافق تماما مع تصريحات المسؤولين السعوديين الذين يحاولون طمس انتصار المقاومة بالحديث عن الفتنة المذهبية والطائفية، وهو الملف الذي ترعاه "إسرائيل" وتطبقه الدول العربية العميلة أو المتحالفة معها. ومنذ نشأة قناة "العربية" وسياسة تقديم البرامج المعادية للمقاومة العربية هو الشعار الأول لتلك المحطة، كما أنها تستضيف وتلمع كل من هو متواطئ مع الكيان الصهيوني وكل العرب الذين اختاروا الخنوع والاستسلام، ومع استعدادات المقاومة اللبنانية لإحياء الذكرى السنوية الثالثة لانتصار 2006، والموافق ليوم 14 أوت المقبل، قامت "العربية" بتنظيم برامج شديدة التوجيه والعدائية عبر إجراء مقابلات ذات طابع كيدي بهدف إظهار جانب ضعف في صورة الانتصار، لكن كل هذا المجهود لم ينقذ السعودية التي خسرت رهانها في حرب 2006، وهي الحقيقة التي تترجمها في كل معاركها المذهبية والإعلامية والسياسية منذ ثلاث سنوات، وهو يعكس اندكاكها في الرهان الأميركي الصهيوني الذي لم يكن يتوقّع أن الرهان يخفي زلزلا عاصفا سيصيب كيان الدولة العبرية وسيعطّل مشروع الشرق الأوسط الجديد، بل ودحض كل المشاريع السياسية التي جرى إعدادها في سنوات لاحقة لفرض السيطرة على المنطقة، وإجبار قوى الممانعة على الرضوخ لشروط البقاء الآمن للدولة العبرية، والصهاينة أنفسهم تحدثوا في أكثر من مناسبة على أنهم باتوا والسعوديين في خندق واحد ضد حزب الله، وكل قوى الممانعة في المنطقة، بل بات الرهان السعودي على الصهاينة كبيرا في ضرب إيران وإحباط النفوذ الإيراني في المنطقة وكذلك ضرب سوريا، في مقابل تحمّل النظام السعودي مسؤولية تعويض الكيان الصهيوني عن خسارته الاستراتيجية، فقد باتت الرياض أمام استحقاق تاريخي بالنسبة للدولة العبرية التي ترى بأن المملكة ملزمة بتوفير الضمانات كافة لوجود الدولة العبرية، باعتبار أن السعودية تحوّلت إلى شريك في مشروع سياسي موحد بدأ في حرب 2006 ومازالت مبررات وجوده قائمة حتى اليوم، حيث يروج المسؤولون الصهاينة وحلفاؤهم السعوديؤن إلى "قائمة أخطار" تحيق بالطرفين من قبل المقاومة وإيران، حتى أن بعض المصادر تقر بأن مسؤولين سعوديين من بينهم الأمير بندر بن سلطان والأمير تركي الفيصل قد طلبوا من "إسرائيل" التعجيل بقرار شن الحرب على إيران من أجل حسم التردد الأميركي في الحرب ووضع إدارة أوباما أمام أمر واقع يجبرها على المشاركة في الحرب. انتهى