من الأمور التي تدعو للحياء والخجل وطأطأة الرؤوس، أن نسمع سفيرا أمريكيا أو أي شخصية أجنبية تنساب اللغة العربية وتجري على لسانه بطلاقة، يحسده عليها حتى الضالعون في اللغة العربية. ومن جهة أخرى، يقف مسؤولونا أمام هيئات وطنية وفي ندوات صحفية، ليبدأوا كلامهم أمام الملأ دون أدنى حشمة أو حياء بعبارة: "اسمحوا لي نتكلم باللغة الفرنسية"! لتختلط عليه الأمور وتتداخل المصطلحات، ليصبح يتكلم بلغة هي أقرب إلى إشارات الصم البكم في التأتأة والأخطاء، وتصير اللغة عنده لا هي فرنسية ولا هي عربية، بل مزيج من المصطلحات الدارجة والفصحى والفرنسية، ليخرج مسؤولنا من ندوته أو مؤتمره الصحفي، وقد أعطى لمستمعيه لغة جديدة يحق للأكاديميات اللغوية العالمية حفظ حقوق ملكيتها له. مشكلة الكثير من مسؤولينا في اللغة، صارت مثل حكاية الغراب الذي أراد أن يقلّد سير الحمامة، فعز عن ذلك، فما استطاع أن يسترجع سيره ووقع خطواته، ولا أخذ عن الحمامة طريقة مشيها، فصار مثل الأعرج وما هو بأعرج، ولكنه التقليد الأعمى الذي جعلنا ننسى كل شيء يمت بصلة إلى حضارتنا وارتمينا في حضارة هي ليست لنا، فلا نحن اندمجنا فيها ولا هي قبلت بنا، ولا حتى استطعنا أن نعود إلى أنفسنا فتهنا وصرنا نرى في المرآة وجوها غير وجوهنا. لقد تعمّقت مشكلة مسؤولينا مع اللغة، لدرجة أنهم أصيبوا بانفصام في الشخصية وصاروا يشعرون بمركب النقص بين لغتين ضاعتا منهم. وأكاد أجزم أن أغلبهم يتمنى لو بإمكانه التواصل مع الناس في اللقاءات الرسمية بلغة الصم البكم، ويتخلص من عقدة اللغة التي تلازمهم، وتصير مأساتهم رهيبة حين يقفون أمام مسؤولين صينيين أو فيتناميين تحوي لغتهم "آلاف الحروف الأبجدية المعقدة" كتابة ونطقا، ولكنهم يتكلمون بها بلا عقدة وباعتزاز وفخر، لأنها رمز لسيادة دولتهم وبصمتهم التي يتميزون بها عن باقي شعوب العالم، ولا أعرف كيف يشعر بعض المسؤولين عندنا وهم يستأذنون الناس أمام الوفود الأجنبية ليتكلموا بلغة أخرى أمام ضيوفهم السياسيين، رغم أن الضيوف هنا لا يفهمون اللغة الفرنسية إلا بمترجم، وفي أحيان أخرى لا يطلبون حتى الإذن وينطلقون في لغة تشعر الحاضرين أنهم في ندوة صحفية خاصة بالصم البكم. على كل، رقي البلدان ليس بالتطور والتكنولوجيا فقط، بل حتى هذه الوسائل ارتقت بالمحافظة على اللغة، ولكن حين يتكلم الصم البكم، فتصوروا أي لغة تكون!