زعيم الأمة .. الزعيم الخالد .. حبيب الملايين .. محرر الشعوب .. نصير الضعفاء .. ناصر المقهورين .. كلها ألقاب أطلقت على الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي رحل بشكل مفاجئ وغامض يوم 28 سبتمبر 1970، كان هذا اليوم كان نقطة فاصلة في تاريخ الأمة العربية وشعوب العالم الثالث، وكان ميقاتا لفتح أبواب الجدل على مصراعيها، جدل فاق الجدل الثائر حول شخصية ناصر ذاتها، وبعد مرور 39 سنة تتكشف أسرار جديدة تكاد تجعلنا نقترب من فك طلاسم اللغز الذي حير شعوب العالم .. هل مات ناصر أم قتل ؟؟ وإذا كانت الشعوب ووسائل الإعلام العربية، هي من أطلقت تلك الألقاب على عبد الناصر، فثمة ألقاب أخرى أطلقها الساسة والإعلاميون الغربيين على الرجل، فقد أسماه "ايدن" هتلر الشرق، وسماه بن غوريون "فرعون موشي"، ولقبه ديغول ب "عدو البشرية"، ويوصمه أعدائه ب " الديكتاتور" و "الطاغية"، أما أصدقائه المقربين فقد كانوا ينادونه ب "جيمي"، أما الروس فقد وصفوه ب "قاهر الإمبراطوريات"، نظرا لأن صموده في أزمة السويس عام 56 وهزيمته لانجلترا وفرنسا في القنال والجزائر وضع حدا لنفوذ تلك الإمبراطوريات للأبد، وبين مؤيد ومعارض تبقى حياة جمال عبد الناصر لغزا من الألغاز التي لم تحل بعد، أما وفاته فهي الأخرى لم تسلم من الغموض . وقد ولد عبد الناصر في 15 جانفي 1918 بالإسكندرية، وكان الابن الأكبر للفلاح الصعيدي الفقير عبد الناصر حسين، وقصة كفاح ناصر معروفة للجميع، فقد تناولتها بإسهاب الأفلام والمسلسلات والكتب والشهادات التاريخية، لكن الأيام الأخيرة في حياته يكتنفها الكثير من الغموض بالرغم من كونها المفتاح لحل لغز وفاته، لذلك يبدو هذا التعتيم متعمدا، من هنا قررت أن أبدأ تحقيقي بالنبش في تلك الأيام، علني أصل للحقيقة . لم أسمح لوزير الخارجية المصري السابق "الدكتور محمود رياض" أن يغرقني في فيض من الحكايات عن ناصر، فسألته سؤالا محددا : هل كنت قريبا من ناصر في أيامه الأخيرة ؟، فأجاب : " نعم .. بل وكنت أحيانا أقرب من جميع المقربين منه وبعض أفراد أسرته، وذلك لأن الأيام الأخيرة في حياة الزعيم الخالد شهدت نشاطا دبلوماسيا مكثفا، ولم يخلد فيها الرجل للراحة رغم تحذيرات الأطباء "، كانت إجابة رياض مطمئنة إلى حد بعيد، فبدأت في طرح الأسئلة الحساسة والمركزة عليه . بدأت بسؤاله : أين كان يقيم ناصر لحظة وفاته .. في قصر الرئاسة أم في منزله ؟ فأجاب : بل في بيته المتواضع بالقاهرة، فقد كنت معه قبيل وفاته بلحظات، فوجدته يرقد متمددا على فراشه في حجرة نومه، حيث كان قد أصيب بنوبته القلبية الثانية قبيل ذلك، كان ذلك عند الأصيل، ولكن عندما دقت الساعة الخامسة، قفز فوق أوامر الأطباء ونهض ليمد ذراعه ليفتح الراديو الموضوع على الطاولة المجاورة لسريره، فقد كان من عاداته رحمه الله الخجل من طلب المعونة من الآخرين، أو إجهادهم، وكان يصر على فعل كل شئ بيديه، ثم عاد لفراشه بعد أن ملأت الحجرة أنغام اللحن المميز الذي تمهد به القاهرة لنشرة الأخبار، ثم أخذ يتابع موجز النشرة، ثم أقفل الراديو قائلا: " لم أجد الخبر الذي كنت أتوقع أن أسمعه" وبعد ذلك بدقائق نطق الشهادتين وغادر العالم الذي لن يعرف قط ماذا كان يتوقع أن يسمع، هذا العالم الذي وجد فيه واحدا من أكثر قادته السياسيين إثارة للجدل، واختاره العرب رمزا لكرامتهم الضائعة وآمالهم التي لم تتحقق . وكان واضحا أن رياض نفسه لا يعرف شيئا عن هذا الخبر، فلم أكلف نفسي عناء السؤال، لأطرح عليه سؤالا آخر : هل مات عبد الناصر مقهورا لأن شلالات الدم العربي تدفقت بأيد عربية، فرأي حصاد جهاد السنين يضيع سدى؟، فأجاب : كانت الأحداث الدولية التي أفضت في النهاية إلى وفاته قد زلزلت العالم وهزته هزا عنيفا، وكانت تتتابع بسرعة متناهية وخطر متزايد، الحدث تلو الآخر، فكانت هناك حوادث خطف الطائرات، ثم اندلاع الحرب السافرة بين الملك حسين وقوات المقاومة الفلسطينية في الأردن، ثم عبور القوات السورية الحدود الأردنية، وما تلا ذلك كله من تهديد الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني بالتدخل، الذي كان مبرمجا بمخططات مفصلة للهجوم على الأردن . ويضيف رياض : فى خلال هذه الأحداث كلها كان الرئيس عبد الناصر يعمل بلا كلل أو ملل من أجل لملمة الجراح العربية وإحلال السلام بين العرب، وقد كان يختلف مع كل من الملك حسين وزعيم المقاومة الفلسطينية ياسر عرفات، وعندما قابل حسين في الإسكندرية في الثامن عشر من أوت، أي قبل وفاته بخمسة أسابيع، شعر عبد الناصر بأن الملك يستهين بقدر المقاومة الفلسطينية، وأنه كان مخطئا عندما قال إنه يستطيع أن يقضى عليهم تماما خلال ساعات، وكذلك عندما قابل زعماء المقاومة كان رأيه أنهم كانوا مخطئين عندما قالوا له إنهم في استطاعتهم أن يجهزوا على الملك في سبع ساعات، فقال للطرفين معا : "عليكما أن تتعايشا، فما من أحد منكما يستطيع التخلص من الطرف الآخر، وهذه حقيقة من حقائق الحياة عليكم معا أن تسلموا بها". وقال للملك حسين : "تقول إنك تستطيع أن تتخلص منهم ؟ حسنا، إذا كنت تقول إنك قادر فربما كنت قادرا بالفعل، و لكن الثمن سيكون باهظا للغاية، فكيف سيكون في وسعك أن تحكم بلدا بعد حرب أهلية ستكلفك ما بين عشرين وثلاثين ألف نسمة ؟، إنك في هذه الحالة سوف تحكم مملكة من الأشباح الهائمة". وقال للفلسطينيين : "لا تتخيلوا أن في وسعكم مواجهة جيش حديث، فإذا ما قرر تصفيتكم، فإن ذلك في قدرته، ولذا لا تبالغوا في تقدير قوتكم، ويجب أن تحاولوا إيجاد صيغة للحياة والنضال من الأردن". ويضيف فوزي : في النهاية أدت جهود عبد الناصر لإحلال السلام في الأردن إلى عقد مؤتمر القمة في القاهرة الذي حضره عشرة من الرؤساء والملوك العرب، وكان ذلك في الفترة من 22 سبتمبر إلى 27 سبتمبر سنة 1970 . عدت لأسأل محاوري : قيل الكثير عن هذا الاجتماع، وقيل أنه كان السبب في سقوط ناصر، هل لنا أن نعرف ما حدث به بالضبط ؟، يجيب رياض : كانت جميع متناقضات العالم العربي تتجلى في اجتماعهم هذا، بينما كان القتال دائرا في الأردن، وكان عبد الناصر يلعب دور الوسيط والمصلح طوال الأيام الثمانية التي استغرقها المؤتمر، لأنه كان يريد جاهدا ويائسا تجنب الانقسام والتكتل، بين مختلف الفئات، ولكن ذلك كان عسيرا في معظم الأحيان، فكان ياسر عرفات قد أمكن تهريبه من عمان متخفيا في "دشداشة " كويتية وكوفية بيضاء حتى يتمكن من حضور مؤتمر القمة، ووصل مفعما بالعداء للملك، وما لبث الملك حسين أن اتصل شخصياً بالهاتف وطلب الحضور ليرد أمام المؤتمر على ما جاء في التقرير المقدم من الرئيس جعفر نميرى، حيث كان مؤتمر الزعماء العرب قد بعث بوفد إلى عمان برئاسة جعفر نميري لتقصي الحقائق في الأزمة بين الأردن والمقاومة، فألقى نميري اللوم على الملك الأردني وحمله تبعة استمرار إراقة الدماء، غير أن بعض الحاضرين عارضوا اشتراكه، وكان رأى عبد الناصر هو أنه يجب على الملك أن يحضر مادام هدف المؤتمر وضع حد للمذابح، غير أن الرئيس القذافى انفجر معترضا على ذلك قائلا : "ما الفائدة من إحضاره؟ إنه معتوه ، إنه مجنون"، فاعترض الملك فيصل آل سعود على الفور قائلا : "كيف تقول ذلك عن ملك عربي؟"، فأجابه القذافي قائلا : "ولكن أين والده؟ أليس هو محتجزا في مصح عقلي في اسطنبول؟، إنه مجنون .. قطعا مجنون .. إن الجنون وراثي في تلك العائلة .. إنهم جميعا مجانين" . وهنا – يقول رياض - ناشد الملك فيصل الرئيس عبد الناصر أن يتدخل لدى القذافى : "كيف نقبل أن يصم أحد زملائنا ملكا عربيا سيشترك معنا في مناقشاتنا غدا، بالجنون ؟"، وبدأ الرئيس عبد الناصر يبتسم ، بينما مضى القذافى يقول : "أجل .. والله إنه مجنون .. وينبغي علينا أن نستدعى غدا بعض الأطباء لإرساله إلى مستشفى للأمراض العقلية حتى نتبين ما إذا كان مجنونا أم لا" . ويضيف رياض قائلا : رأيت الرئيس عبد الناصر في حالة غريبة، كان يبتسم، وعيناه تفيض بالمرارة، وكأنه كان يشعر بأن بيت العرب الذي طالما سعى لتقوية أساساته آيل للسقوط . تقرأون في الحلقة القادمة سكرات الموت واللحظات الأخيرة في حياة عبد الناصر السر الذي أفضى به ناصر لبومدين ناصر يحمل بومدين خلافة الزعامة العربية