الزائر لتيبازة سيعبر رحلة عبر الزمن لمدينة عظيمة مازالت منبعا للتاريخ و السياحة وإبداع الإنسان، فمختلف الآثار التي نكتشفها بالحديقة الأثرية الكبرى تزخر على معالم قيمة تطلعنا على القدرات الخلاقة لتلك الشعوب التي استوطنت أرض المدينة لآلاف السنين لتبدع و تتفنن في صنع هيكل المدينة. هذا ما نلمسه و نحن نزور الحظيرتين الأثريتين الشرقيةوالغربية واللتان تختزنان كنوزا عظيمة فالحظيرة الشرقية والتي تعرف باسم روضة القديسة صالصا، عبارة عن مقبرة مسيحية واسعة شيدت حول كنيسة القديسة صالصا تكريما لها. أول ما صادفناه في طريقنا ونحن نتوغل بداخل الحظيرة لافتة تضمنت مجموعة من النصائح قدمت للزوار كاحترام قداسة الآثار والحفاظ على أجواء الهدوء والنظافة بالمكان، لكن الواقع يعكس خلاف ذلك تماما لأن تلك النصائح بقيت مجرد كلمات مدونة على لافتة معدنية لا أحد يكترث بها أو يهتم لأمرها. ونحن نقتحم باحات هاته الروضة ذهلنا لما شاهدناه فيد الإنسان بشراستها امتدت لتعوث فيها فسادا دونما اكتراث لقداستها ومكانتها التاريخية، فالظاهر أنها أصبحت ملاذا لكل العشاق ومسرحا لممارسة كل طقوس الرذيلة في ظل صمت السلطات وتغاضيها عن الأمور فيما تنتشر الأوساخ بشكل رهيب بكل شبر من أرجاء المكان لتشوه الوجه الحضاري لهاته المعالم الأثرية. وخلال هذه الزيارة التقينا بالسيد محمد من العاصمة وجدناه رفقة إبنته يتفسح بالحظيرة استجوبناه لمعرفة رأيه وانطباعه عن الأجواء العامة بالحظيرة وأبدى تأسفه الشديد للحالة الكارثية التي آل إليها هذا المعلم الأثري رغم أهميته التاريخية في ظل انعدام الدليل فعلى الأقل توزع منشورات أو كتيبات توضح وتقدم تفسيرا ولو بإيجاز للحقائق التاريخية لماضي هاته الآثار، وهي أسباب جعلت السيد محمد يهم بمغادرة الحظيرة سريعا بعدما وجد نفسه يتجول كالتائه بين تلك الأطلال وواصلنا جولتنا لننتقل إلى الحظيرة الغربية، والتي تضم بقايا آثار المدينة الكبرى العتيقة فهي تعد من أبرز المعالم الأثرية بالجزائر بعدما تم تصنيفها سنة 1982 من طرف اليونيسكو ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي إلا أن غياب الحس المدني وربما حتى التربية الثقافية عن المواطن الجزائري من جهة و إهمال السلطات المحلية التي لم تكترث تماما لحالة الاحتضار الذي تتخبط فيه هاته المعالم الأثرية التي توشك على الزوال والاندثار بعدما فقدت قيمتها التاريخية والحضارية فأول ملاحظة سجلناها : عدم وجود الدليل الذي يوجهنا في جولتنا ويشرح لنا حقائق ماضي هاته الآثار إضافة إلى اهتراء سياج الحظيرة وظهور فجوات كبيرة به تم ترقيعها بالأسلاك. أكد لنا عمال الأمن الذين تقتصر مهمتهم على حماية الأشخاص والممتلكات أنهم عجزوا عن فرض حماية شاملة على مستوى الحظيرة في ظل عدم وجود سور عال محصن يمنع دخول فئة الشباب المنحرف الذي يتسلل إلى الداخل ليمارس شتى أنواع الرذائل والفواحش كما صادفنا أيضا بعض الأغنام والماعز التي وجدت في نباتات الحظيرة الكلأ المفضل لها مخلفة وراءها الفضلات والروائح الكريهة التي كثيرا ما تؤرق المتجولين والزوار الذين أبدوا لنا استياءهم من مثل هاته المظاهر. فسيفساء الكنيسة هي الأخرى تكاد تختفي تماما بعدما تعرضت أجزاء كبيرة منها للاندثار جراء أثر أقدام المتجولين التي تدوسها عليها إلى جانب مياه الأمطار التي أثرت عليها بشكل كبير. من جهتها صرحت لنا السيدة : بن عودة أنيسة مديرة متحف تيبازة والمحافظة السامية للحديقة الأثرية الكبرى أن المتحف يتوفر على ثلاث نساء دليلات وأن على أي زائر يود الحصول على شرح وتفسير للحقائق التاريخية للآثار الموجودة بالحظيرتين عليه أن يستعلم مسبقا إدارة المتحف حتى تزوده بالدليل وعن عدم وجودهن بالحظيرة، فإنها أجابتنا أن الإشكال يطرح في عدم وجود مكان بالحظيرة تمكثن به لممارسة عملهن. أما فيما يخص قضية السياج فإنها لا تخص إدارة المتحف، بل تقع على عاتق السلطات المعنية بما فيها الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحلية الذي عليه أن يجد حلا لها باستبدال السياج بسور عالي. وعن الأغنام والماشيةالتي تقتحم حرمة الحظيرة فإن المديرة قد صرحت لنا أنها قد اشتكت مرارا وتكرارا للسلطات المعنية لكن دون جدوى فيما يبقى الحس المدني وحده كفيل بأن يضمن حفظ وصيانة هذا التراث الثقافي من الفناء. ونعترف أننا تمكنا من قراءة ملامح الصمود والتحدي على أحجار هاته الحديقة الأثرية الخلابة التي رغم العبث والإهمال واللامبالاة فإن تاريخها غارق في القدم لآلاف السنين يظل يحكي لنا ذاك الماضي بتفاصيله ويسرد لنا حياة شعوب كانت بالأمس القريب تعمر أرض مدينة تيبازة، هاته البقايا الأثرية قد تبدو للبعض خرابا لكنها من دون شك ترسخ تقديسنا للماضي الذي يحركنا نحو المستقبل إذا الحفاظ عليها وصيانتها من الزوال والاندثار مهمتنا نحن الجميع بدون استثناء حتى نضمن إيصال هذا التراث الإنساني للأجيال القادمة.