العلاقات الدبلوماسية بين الولاياتالمتحدة ودول إفريقية الشمالية، 1776 1816 وقد كتبتها كجزء من برنامج أطروحة الدكتوراه في مادة العلوم السياسية أثناء خريف 1963، وقدمتها إلى البروفيسور شارل ه. ماكلافلن، أستاذ المادة ورئيس دائرة العلوم السياسية في جامعة مينيسوتا. وقد رأست ترجمة هذه المراجعة عن الأصل الإنكليزي إعتقادا مني بأن ذلك قد يؤدي إلى زيادة فهم التطورات التاريخية لهذه المنطقة. مراجعة لكتاب الدكتور ري وارفينغ خلال أكثر من ثلاثة قرون إتبعت دول المغرب العربي التي كان يطلق عليها إسم (the Barbary States) نوعا من السياسة الدولية التي أصبحت تعرف عند الكتاب الأوروبيين بأنها سياسة قرصنة وغير متحضرة. ويبدو أنه من الصعب أن يحكم المرء من وجهة نظر واحدة فقط. إن التفسير الحقيقي لسياسة "القرصنج" يجب البحث عنه في المحتوى التاريخي والظروف العالمية التي قادت الى ذلك العمل الدبلوماسي والممارسة التجارية التي تستنكرها مقاييس العلاقات الدولية الحديثة. وقبل أن نتحدث عن قدوم أمريكا إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، دعنا نذكر بعض النقاط التي توضح تفسيراتنا للحوادث فيما بعد، أن الوضع الجغرافي لإفريقيا الشمالية وجنوب أوروبا في غرب البحر الأبيض قد جعل من المحتم أن تدخل هذه المنطقة في صراع عنيف من أجل السيطرة والنفوذ في مضايق جبل طارق وصقلية ولم يحن منتصف القرن الخامس عشر حتى أصبح واضحا أن ميزان القوي كان قد أصبح يرجح نحو جهة جديدة: ففي غرب البحر الأبيض رجح لصالح أسبانيا والبرتغال ضد الأندلسيين (المور)، وفي شرقه رجح لصالح العثمانيين ضد النمساويين. ذلك إنه بنهاية القرن 15 نجح الإسبانيون (أو البرتغاليون) في طرد الأندلسيين من شبه جزيرة إيبيريا واضطروهم الى النزوح الى إفريقية الشمالية. ولكن الإسبانيين لم يتوقفوا عند ذلك، بل إستهدفوا إحتلال إفريقيا الشمالية أيضا، فموانئ ومدن سبتة، ووهران، والجزائر، وتونس، وطرابلس، كانت كلها مهددة من التوسع الأسباني. ثم إن الإسبان لم يكونوا وحدهم في هذا الصراع، فقد كانوا مؤيدين من البرتغاليين وأهالي جنوا، ونابولي وسردينيا، و"فرق" أخرى من الأمبراطوية المقدسة لذلك كان الوضع يبدو ميؤوسا منه في نظر أهالي إفريقية الشمالية. وفي النهاية طلبوا من الدولة العثمانية أن تتحالف معهم لطرد الأجانب من بلادهم. وهكذا تحالفت الجزائر مع الدولة العثمانية سنة 1516، ثم لحقت تونسوطرابلس. أما المغرب فلم تدخل في تحالف رسمي، ولكنها تعاونت، بدلا من ذلك، مع جيرانها. أن قصة السياسة المعروفة بسياسة القرصنة لدول إفريقيا الشمالية (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا) تبتدئ من سنة 1516. وهي السياسة التي اتبعها أهالي المنطقة للدفاع عن حقوقهم حفظا لتوزان القوى، والتي أسمها الكتاب الأوروبيون (والأمريكيون) بالقرصنة وإستنكروها، كما سبقت الإشارة، على أنها عمل غير متحضر. ولكن هؤلاء الكتاب بما فيهم السيد أرفنغ، ينسون أن معظم الدول الأوروبية في ذلك الوقت كانت تتبع نفس السياسة في العالم الجديد، وفي جنوب شرق آسيا، وفي البحر الأبيض، ولم تتغير سياسة هذه الدول في الحقيقة سوى بعد مؤتمر فيينا سنة 1815، وهو التاريخ الذي ينتهي عنده الكتاب الذي نراجعه. وهناك عوامل كثيرة ساهمت في خلق الصراع في غرب البحر الأبيض خلال أكثر من ثلاثة قرون. ولعل العامل الديني كان أقواها جميعا، فالأندلسيون كانوا قد طردوا من الأندلس باسم قضية دينية. ولاشك أن الكنيسة في بلد لاتيني قد لبعت دورا هاما في إستمرار الصراع من الطرفين. وقد كانت النسما أيضا تعلن شبه حرب مقدسة ضد تقدم العثمانيين في وسط أروبا، حيث أظهرت الكنيسة هناك أيضا تأثيرها في توجيه ميزان القوى. وبالإضافة إلى العامل الديني، كانت هناك المنافسات التجارية بين الدول المعنية، وقد كانت مضايق جبل طارق وصقلية مركزا للنزاع. فكل من يبسط نفوذه على هذه المضايق، يضمن لنفسه السلطة في المنطقة. وبالإضافة الى ذلك، فإن موانئ الجزائر، وطنجة، وتونس، ومارسيليا، وجنوا كانت هامة بدرجة كبيرة. أما في شرق البحر الأبيض فإن مضايق الدردنيل وجزر البحر الأدرياتيكي والخليج الفارسي، كانت كلها أسبابا أخرى للنزاع. وتظهر المنافسات التجارية في عدة أشكال، ولكن أكثرها وضوحا هو (التنازلات) أو الاتفاق بين فرنسا وتركيا والشركات الشرقية، ثم هناك عدد آخر من المشاريع التجارية التي كونتها الدول الأوروبية في منطقة إفريقية الشمالية. أما الولاياتالمتحدة، فإنها لم تشارك في هذا الصراع الا مؤخرا. فعندما كانت بريطانيا هي السيدة في أمريكا الشمالية كانت هي التي تحمي المصالح التجارية في منطقة البحر الأبيض. وقد كانت بريطانيا، عموما، في تفاهم مع دول إفريقية الشمالية وكانت تتمتع بإمتيازات عظيمة. ولكن بعد سنة 1776 كان على الولاياتالمتحدة أن تتولى مسؤوليتها بنفسها أن معظم الدول الأوروبية قد تمتعت بعلاقات ودية مع دول إفريقية الشمالية، ولاسيما بريطانيا، وفرنسا، وهولاندا، والدول الإسكندينافية، ويكتب السيد أرفينغ نفسه عن علاقة بريطانيا بكل من مستعمراتها في أمريكا الشمالية ودول إفريقية الشمالية فيقول: "إن سياسة بريطانيا في غرب البحر الأبيض... كانت بشكل واضح في صالح مستعمراتها (يقصد الولاياتالمتحدة)، فقد أعطتها (إلى المستعمرات) قاعدة سياسية لتجارة مربحة. كما أنها قد سمحت لها بالحرية من الجزية، ثم أنها قد أمنتها وحمتها وجعلتها تتمتع بوضع لا تتمتع به إلا الأمم الأوروبية ذات الإمتيازات الخاصة". وإذا كانت هذه هي حالة بريطانيا في علاقتها مع دول إفريقيا الشمالية. حقا أن هذه الدول كانت في نزاع طويل مع بعض الدول الأروروبية، ولكن هذه كانت هي الدول التي حاولت أن تؤسس لعلاقات إقتصادية وتجارية فقط، ولكن علاقات سياسية وثقافية (ولاسيما الدين) أيضا. وهذه الدول هي إسبانيا، والبرتغال، والدويلات الإيطالية. أما بصدد المفاوضات المباشرة بين أمريكا دول إفريقية الشمالية، فإن الأخيرة قد بذلت جهدها لكي تحافظ على علاقات ودية مع العضو الجديد في مسرح النزاع. ولكن نتيجة لعوامل أخرى، إعترف بها السيد أرفينغ نفسه، ظهرت الصعوبات على السطح وأصبح النزاع ضروريا. وهذه العوامل هي: بطء إتخاذ القرارات الأمريكية (مثلا أن المعاهد التي جرت المفاوضة بشأنها في الجزائر سنة 1815 لم تصادق عليها الولاياتالمتحدة سوى سنة 1822 النقص في تنسيق الإتصالات، فالرسالة قد تأخذ شهرين قبل أن تصل الطرف الآخر، بل أن بعض الرسائل قد ضاعت نتيجة لضياع إحدى السفن أو إلقاء القبض على حامل الرسائل. تقص المعلومات عن الشعوب والبلاد المعنية. فهناك رجل مغربي متدين قد إقنع رئيس دولته، لكي يوقع معاهدة مع وفد أمريكي، بأن الدين في الولاياتالمتحدة كان هو نفس الدين في المغرب. وقد إعتاد حكام الجزائر أن يشيروا الى الرئيس الأمريكي على أنه أمبراطور أمريكا أنشر شيلر في كتابه (مختصر تاريخ الجزائر وبالإضافة الى ذلك، فإن الممثلين الأمريكيين ولاسيما خلال العقدين التاليين لإستقلال الولاياتالمتحدة، لم يكونوا مطلعين على الوجهة الثقافية والتجارية والسياسية لدول إفريقيا الشمالية. ولكن الدول الأوروبية لم تكن مستعدة لمساعدة الولاياتالمتحدة في علاقاتها مع دول إفريقيا الشمالية. فقد رفضت بريطانيا أن تحمي مصالح أمريكا أثناء حرب 1812 التي جعلت بريطانيا تقف ضد الولاياتالمتحدة في منطقة البحر الأبيض. ورغم أن فرنسا قد قدمت لأمريكا بعض المساعدات أثناء حرب الاستقلال، فإنها قد أصبحت فيما بعد غير مبالية، بل أصبحت أحيانا تشك، وحتى تعمل ضد الولاياتالمتحدة. كذلك كانت إسبانيا على علاقة غير ودية مع دول إفريقيا الشمالية ولا تستطيع أن تساعد الولاياتالمتحدة بل أن إسبانيا كانت قد إتهمت، خلال حرب طرابلس أمريكا، بمساعدة الأولى.. وقد كانت البرتغال هي البلاد الأوروبية الوحيدة التي قدمت مساعدة لأمريكا. حتى لقد فكر الكونغرس الأمريكي في مساعدة البرتغال بدل إرسال أسطول بحري ضد الجزائر. ومن جهة أخرى ساعدت كل من السويد، والدانمارك، وسردينيا الولاياتالمتحدة، ولكنها لم تفعل ذلك إلا إذا كانت هذه الدول هي نفسها في حرب مع واحدة أو أكثر من دول إفريقية الشمالية. أما الهولنديون فقد تفاوضوا مع الأمريكان على المساعدة، ولكنهم رفضوا في النهاية أن يطبقوا ذلك. وقد أشار السيد أرفينغ الى الصعوبات التي واجهت الأمريكان في مفاوضتهم مع دول إفريقية الشمالية. وأهم الصعوبات هي: قلة معلومات المفاوضين الأمريكان عن إفريقية الشمالية. عدم الثبات على قرار بالنسبة لحكام إفريقية الشمالية. ضآلة الرصيد المالي الذي كان تحت تصرف المفاوضين. ضعف فهم الأوضاع عند المفاوضين الأمريكان. (مثلا كانوا يتهمون بعضهم البعض بالجهل والتزوير، وفتح الرسائل...)، ولكن أمريكا قد إستفادت كثيرا من تجربتها مع دول إفريقية الشمالية. فقد تعلمت أن تعتمد على نفسها. وكان مساجينها قد عوضوا بمبالغ طائلة في طول البلاد وعرضها وقد نجحت في خلق أسطول بحري وإنجاب أبطال مثل إيتون وديكاتور. ويقول السيد أرفينغ أنه من ظاهرة كهذه تتطور وحدة شعب ما.