ولد الفنان بشير بلونيس في 26 مارس 1950 بقرية بوحجار ولاية الطارف وتوفي في
سانت ايتيان بفرنسا يوم 03 أوت 2003. بين التاريخين قدم الكثير من المحاضرات عن الفن و شارك في عديد المعارض الفنية التشكيلية ونال مجموعة من الجوائز التي تقول الاعتراف و أنجز الكثير من اللوحات الزيتية و المنحوتات التي بقيت شاهدة على الزمن الذي نسيها. عبد السلام يخلف جامعة قسنطينة الحديث عن الفنان، أي فنان، هو بذاته حديث عن الإنسان الذي يسكنه، ذاك الذي يئن ويتألم ويصرخ ويحلم ويشرئب إلى امتلاك المدى وحل ألغاز المشاوير السرمدية والمتاهات الوافدة من كل جانب. بشير/ بَشَرٌ/ بِشْرٌ/ بُشْرَى سخية حركت النبض في البقايا الباردة من خشب وحديد/ شِبْرٌ مده القلق في نافورة الحياة المتعرجة/ شراب يتبخر حين يأتي المساء ثم يعتدل في استقامته كي يترك لنا عطره الفتان، زقزقات مجدولة تحرض خطوَنا على الاستماتة في ابتغاء الأبهى من ثمار الإنسان هو الذي ما تخلف يوما عن رسم الطرقات الواسعة التي تقود إلى واحات التذكر ومروج المتعة الأخاذة.بشير هو الفنان والإنسان، وهل يمكن فصل الحلم عن نومه أو المشي عن القدم؟ أيمكن فعلا الحديث عنه بفعل الماضي؟ العيب ليس في اللغة بل في الكلمات التي تتردد خوفا من التراجع في وسط المشوار، وإذا ما حدث واستغنت اللغة يوما عن الرموز التي أبدعها بشير بلونيس فستبقى خائبة إلى الأبد ولن تعرف سببا لما أصابها من كساح.التقيت به أول مرة خلال ملتقى مغاربي حول السينما بمدينة عنابة عام 1993، كان يجلس رفقة هدوئه المعهود، ظله الذي لا يخرج من وقته أبدا، جسمه النحيف يقول انه ترك ما تبقى من الوزن كي لا يزعج الآخرين أو كي لا يحتل مكانا أكثر مما تحتاجه الفراشة.بشير سيد النحت الذي لا يهاب المساحات الكبيرة. أكثر ما يخاف الرسام هي المساحات البيضاء التي تحرضه على البداية، وأكثر ما يربك النحات هو الفراغ الآثم اللامنتهي. بشير يعبث بالفراغ وعنجهيته فيملؤه بمنحوتات تطلع كالمخلوقات الخرافية أو كالمركبات الفضائية أو كأحلام السرياليين الهاربة التي تستعصي على الإدراك، منحوتاته خليط من أشكال النباتات والحروف الأبجدية لكل اللغات، من الأشورية إلى السومرية إلى العربية التي تطلع كالزغرودة من اكف التراب ثم ترفع يديها وتتوجه نحو السماء أو قد تنحني في خشوع دافئ أو قد تسجد في حنو كبير ويعجبها البقاء كذلك فتخلد إلى صمتها، منكفئة على ذاتها، معرضة عما يدور حولها من هرج العابرين أو العيون النزقة. قد تسمح المنحوتة ببعض الحرية لجزء منها فيروح يبتعد مثل اليد الممدودة أو الرجْل التي تمد خطوتها في الفراغ وتبدو المنحوتة في النهاية كعرّاف خرافي يقرأ طالع النجوم أو ساحر يوزع التمائم على الزوار الوافدين عليه وعلى حكمته الخالدة.منحوتات بشير بلونيس تحمل عصارة الكثير من الحضارات وتلك بالذات هويتها، ذاك التعدد في الانتماء إلى دوائر ثقافية متكاملة أعطى ناتجا غنيا متنوعا متفردا رغم بساطته. البساطة حكمة المبدعين.التقيت الرجل في مناسبات عديدة فحدثني عن مسيرته وفنه وأطلعني على ألبومات صوره التي تقول أسفاره في الجغرافيا وإسرافه في الاكتشاف، أراني صور منحوتاته الموزعة هنا وهناك من خارطة الدنيا وحدثني عن طريقة عمله وهو يتحدى الفراغ بمنحوتات ذات أبعاد ثلاث. من تحت زجاج نظارته كان ينظر إلى ما يحيط به تماما كما تفعل النجمة الهاربة. في أعلى طابق بنزل السيبوس كان ينتظر الغذاء وبصحبته قلقٌ وسيم، قال: "لو لم يكن الأكل ضرورة بيولوجية للجسم ما أكلت، الأكل هو من قبيل الوقت الضائع"، قالها بلغة فرنسية جذابة هادئة واسترسلنا في الحديث عن الفن وأشيائه وطالت الجلسة رفقة الفنانين ناصر بن ميسي وعلي دعاس وباقي أعضاء جمعية "صدفة" للفنون التشكيلية من مدينة قسنطينة.ي تحدث الرجل فلا يقول إلا ما يفيد ويشير إلى الآخرين من دون تنابز وينتقد سلوكاتهم بكل موضوعية وأدب. لا يحتكر الكلام بل يحب الإنصات جدا ويسأل السؤال ثم يروح يصغي في اطمئنان مريح دون زيف أو تصنع، وجهه وقسماته الأليفة مرآة تنطق بما ارتسم في داخله من وقار وحسن نية.
حدثنا بشير عن فنه والفن في الجزائر، عن الفرق بين النحت والرسم أو بالأحرى عما يجمعهما هما النازلان من سراج واحد، من خفته قام من مكانه وكاد ظله ألا يلحق بحركاته الرشيقة. انتهى الحديث وانتهى الطعام فقلت له مازحا: "يبدو أن وقت الأكل اليوم قد خرج عن عادته ولم يبق من قبيل الوقت الضائع"، ضحك كثيرا ثم قال قبل أن نفترق: "أنا أحقق ذاتي من خلال الاستماع إلى الآخرين لأنني كلما استمعت إليهم تغيرت الأشياء لدي". هذا هو المبدع المتمرس القادر على فهم الأصوات، من دويّ البراكين إلى أزيز النحل، العارف بالحركات، من رقص الريح إلى طانغو الأفعى، الداري بأسرار الكلام الشفاف والجمل المسدودة. و أنت تنام هناك نومتك الهادئة و نحن نذهب نحو عام جديد، نقول لك عامك طيب أيها الرجل الطيب أما نحن فتلك حكاية أخرى.