استكمالا لملف المفقودين من الحراڤة الجزائريين المرشح احتمال تواجدهم بالأراضي التونسية، الذي تبعته "النهار" بتفاصيله، وبغية كشف المزيد من الحقائق ارتأت "النهار" أن تخوض إحدى الرحلات ومرافقة أحد الأهالي إلى التراب التونسي، ونقل كل الحقائق عن قرب ومشاركتهم المغامرة بحثا عن بصيص أمل يعيد الفرحة إلى العائلات المفجوعة، والعودة بأخبار تثلج الصدور وتنهي سلسلة من معاناة دامت أكثر من 3 أشهر من البحث والسعي في كل الاتجاهات. * كانت الساعة تشير إلى منتصف النهار من يوم الاثنين المنصرم، وبعد اتفاق مسبق مع 3 من أهالي الحراڤة، كانوا يبحثون عن الوصول إلى معلومات حول مصير أولادهم الذين كثرت بشأنهم الأخبار عن تواجدهم بالتراب التونسي داخل السجون، قررنا خوض التجربة ودفعنا الفضول الصحفي لمرافقتهم، كان الأمل يحذو الثلاثة وأنا رابعهم، التقينا بمحطة القطار بعنابة قاصدين السيارات الخاصة التي ستقودنا إلى تونس، توجهنا نحو أحد أصحاب السيارات الذي رحّب بنا، بعد أن كشفنا عن هويتنا وسبب توجهنا إلى تونس، ومباشرة دون استفسار منه هم بالخروج بنا من محطة المسافرين لنبدأ رحلة بحث وتحر واستكشاف، كان الفضول ونشر تفاصيل الحقيقة دافعها الرئيسي. الحكاية انطلقت من السيارة التي دخلنا فيها حركة من المد والجزر، وبكل انطلاق وتحرّر مع الراكبين. وبما أن "النهار" كانت المنبر الأول لعائلات "الحراڤة" ظللنا نتبادل آخر المستجدات في القضية التي نحن بصدد البحث فيها، والتي أخذت من الوقت ساعة ونصف ساعة لقطع قرابة 90 كلم، الفاصلة بين مدينة عنابة والمركز الحدودي أم الطبول بالقالة ولاية الطارف، حيث خضعنا للإجراءات القانونية الاعتيادية من قبل القائمين على المركز الحدودي والتي لم تتعد ربع الساعة، لنتوجه بعد ذلك إلى النقطة الأخرى الحدودية للدولة الشقيقة تونس وبالتحديد المركز الحدودي ملولة، أين استوفينا ما يلزمنا من إجراءات كانت اعتيادية لنا، وبمجرد خروجنا من المركز الحدودي كانت مهمتنا قد بدأت بالتراب التونسي، متكتمين عن أسباب توجدانا على أراضي الجار الشرقي، لأننا ادعينا قرابة أحد المفقودين لكي لا تواجهنا أيّ صعوبات في ظل التشديدات الأمنية من قبل السلطات التونسية بشأن ملف الهجرة غير الشرعية. واصلنا طريقنا نحو العاصمة التونسية وكلنا أمل للوصول إلى جديد قد يطفئ نيران الحيرة، ويزيل الغموض وعلامات الاستفهام الكثيرة والمرسومة على وجوه مرافقينا، لأسئلة صنعت جوا من الحزن للباحثين عن فلذات أكبادهم، وبعد مضي 3 ساعات حططنا الرحال بالعاصمة تونس وبالضبط بباب البحر الحي المقابل للشارع الرئيسي الحبيب بورڤيبة، الذي بات يعج بالجزائريين من مختلف الولايات. كانت الساعة السابعة، وكان الأرق والتعب قد أخذ منا الكثير، ما فرض علينا أخذ قسط من الراحة. وبحكم معرفتنا الجيدة بالمنطقة قصدنا (نزل فرنسا) لنحجز غرفة، وسارت الأمور على أحسن ما يرام استعدادا لليوم الموالي، وفي الصبيحة اتصلنا مباشرة بسيدة جزائرية مقيمة بتونس العاصمة متزوّجة من تونسي وتعمل بمصحة خاصة بالضاحية، لنخبرها بتواجدنا بتونس.. استسمحتنا على خلفية التزاماتها المهنية، وأكدت لنا أنها ستلتقي بنا بعد انتهاء دوامها عل الساعة الخامسة، وضربت لنا موعدا بمقهى العرب بالقرب من حي باب السويقة، في حين كان (ب. عمار) و(ر. ج) و (ع. عبد الكريم) متشوقين لمقابلتها، لأنهم من أهالي الحراڤة المفقودين، حيث كانوا يرون فيها سبيلهم في المساعدة في الحصول على الجديد في قضيتهم. وبعد طول انتظار هاتفتنا السيدة ليلى، واعتذرت منا على التأخر وأجلت حضورها مرة أخرى إلى ربع ساعة.. كانت الساعة -وقتها- تشير إلى السادسة مساء، توقفت سيارة من نوع "بيجو 206" وعلى متنها ثلاثة أشخاص من بينهم السيدة ليلى، وبحكم معرفتنا بها سابقا حيّتنا وطلبت منا الجلوس إلى الطاولة بغية تقديمها بعض المساعدات فيما يخص قدومنا إلى تونس. مباشرة عرفت سبب تواجدنا ورحّبت بالفكرة عارضة علينا المساعدة بقدر الإمكان، خاصة وأن الحراڤة المفقودين من أبناء الجزائر -على حد تعبيرها- وهو ما زادنا إصرار على مواصلة عملنا في ظل التفهّم الكبير للسيدة ليلى.. هنا رأينا فرحة مرافقينا الثلاثة، حيث بدأوا يعرضون كل ما يملكون على السيدة الجزائرية التي رفضت ما بادروا، لأن الخدمة التي ستقدمها إنسانية وما هي إلا واجب وطني. وبعد دردشة كبيرة وتبادل للأخبار وما يشاع من هنا وهناك، كانت عقارب الساعة تدور بسرعة وكان الجو باردا، اتفقنا على كل شيء مع بداية يوم الأربعاء، وكان الكرم منها أن دعتنا إلى تناول وجبة العشاء برفقتها إلا أن نفسية مرافقينا لم تسمح لهم بذلك، مفضلين الاستسلام للنوم استعدادا لسفريتنا إلى مدينة بنزرت الساحلية التي تبعد عن العاصمة التونسية ب 65 كلم. للعلم فإن تلك الليلة مرت بيضاء، حيث تركز حديثنا على خطة محكمة لبداية مهمتنا، لأن الأماكن والمرافق التي سطرنا زيارتها كانت عمومية كمقرات الحرس الوطني التونسي والأمن الوطني ومقر خفر السواحل. * من باب سعدون إلى جرزونة ببنزرت * استدعت مهمتنا تأجير سيارة نقل جماعية أقلتنا من باب سعدون بالعاصمة إلى محطة نقل المسافرين جرزونة ببنزرت، بعد دفعنا مستحقات استغلال الطريق السيار الرابط بين الولايتين، حسب النظام المعمول به بالدولة الشقيقة، حيث اتصلنا خلال الطريق بصديق تونسي الجنسية يعمل كمفتش شرطة بالأمن الوطني التونسي يدعى (مراد. ك)، الذي كانت فرحته كبيرة عندما أعلمناه بتوجهنا نحو ولاية إقامته ببنزرت. وما إن وطئت أقدامنا محطة نقل المسافرين بجرزونة، حتى وجدنا الأخ مراد بانتظارنا، وبعد أن قدمنا له مرافقينا دعانا إلى شرب القهوة، علما بأن المفتش مراد تربطنا به علاقة صداقة وطيدة منذ أكثر من 3 سنوات. لبينا الدعوة ودخلنا مباشرة في صلب الموضوع، تريث الأخ مراد بعدما تنهد تعبيرا عن مدى تحسره للمعاناة الكبيرة التي يعيشها أهالي الحراڤة مبديا تضامنه وتعاطفه معهم، خاصة وأنه على اطلاع على الملف بحكم وظيفته، لتبدأ أولى خيوط الحلقة المفقودة في الملف بالظهور. * أزيد من 60 حراڤا جزائريا خلف قضبان سجن الناظورببنزرت * أفادنا مراد بأن أزيد من 60 حراڤا جزائرياو يخضعون للتحقيق من قبل السلطات الأمنية التونسيةو بعد دخولهم إليها خلسة عبر "قوارب الموت" التي حوّلتها أمواج البحر الهائجة نحو السواحل البنزرتية. وكانت "النهار" في أعداد سابقة قد نشرت تفاصيل مصير 39 حراڤا محجوزين بالسجون التونسية، ما أكد مواضيعنا السابقة. ومن جهة أخرى، ارتفع عددهم بداية من مقر إقليم اختصاصه ومن خلال المعلومات المستقاة من مصادر جد مطّلعة، لنفرغ إلى تأكيد فرضية تواجد الجزائريين الموقوفين بالسجون التونسية، ونتحوّل للبحث في تحديد عددهم الحقيقي الذي تضاربت بشأنه المعلومات، خاصة أن الحراڤة الجزائريين يعمدون في هجرتهم الغير شرعية على عدم حمل وثائق تثبت هويتهم، هروبا من إعادتهم إلى التراب الجزائري في حالة توقيفهم من قبل السلطات الإيطالية. نزلت هذه المعلومات كالصاعقة على مسامع مرافقينا من أهالي الحراڤة من جهة، وبشرى خير لهم من جهة أخرى، ما دام احتمال غرق أبنائهم عرض البحر أصبح مستبعدا، بعدها توقفنا عن الحديث عند رنين هاتف صديقنا التونسي وكلنا نترقب * هاتف خطيبة مراد منعرج حاسم * أثناء مكالمته لخطيبته وإعلامها بتواجده رفقة أصدقاء من الجزائر من بينهم من فقدوا أبناءهم في هجرة غير شرعية، تأسفت للخبر وطلبت منه اصطحابنا إلى مكان عملها بالمستشفى الجهوي الحبيب بوقطفة ببنزرت، حيث بدأت أقدام مرافقينا تتثاقل، خاصة وأن المكان هو مستشفى به مصلحة حفظ الجثث، دون إعطائه أيّ توضيحات عن سبب إصرارنا على مرافقتنا إلى مقر عملها لنكشف حلقة أخرى كانت مفقودة من سلسلة البحث. * 14 جثة مهاجر غير شرعي بمصلحة حفظ الجثث * بعد أن استقلينا سيارة أجرة من جرزونة إلى المستشفى الجهوي الحبيب بوقطفة، بدا القلق يتزايد تجاه أخبار قد تكون غير سارة لنا ولمرافقينا وصلنا إلى مقصدنا متوجهين برفقة مراد إلى خطيبته بمصلحة الكلى التي تعمل بها وجدناها بانتظارنا، ملتمسين في عينيها الخوف من أن تتعرّض إلى مشاكل مع مسؤوليها في حال اكتشاف أمر زوارها، إلا أنها تخطت كل ذلك واصطحبتنا إلى زميلها نبيل رئيس مصلحة الاستقبال والإعلام، والذي أخبرنا بوجود 14 جثة مهاجر غير شرعي بمصلحة حفظ الجثث تم انتشالها من شواطئ المنطقة الصخرية رفراف بشواطئ بنزرت، بعد أن قذفتها أمواج البحر على مرحلتين أولاها كانت بتاريخ 3 جويلية المنصرم، الذي تم فيه انتشال جثتين وجد بمعصم إحداها قلادة تحمل العلم الجزائري، أما الثانية فكانت بتاريخ 13 أكتوبر الماضي الذي انتشلت فيه 12 جثة أخرى بنفس المنطقة، بعد اكتشافها من قبل خفر السواحل التونسية. ليسود الصمت التام بعد سماعنا الخبرر حيث فاجأنا بعدها عمي عمار وهو يذرف الدموع قبل أن يسقط مغشيا عليه من شدة هول الصدمة، الأمر الذي تطلب إسعافه من قبل القائمين على المستشفى دون علمهم بسبب تواجدنا الذي تعمدنا عدم الإفصاح عنه كيلا نتسبب في متاعب لخطيبة الأخ مراد، فادعينا أن تردي صحته الصحية هو ما دفعنا إلى القدوم إلى المستشفى لإسعافه وإجراء الفحوص الطبية. بعد ساعة من الحادثة، عاودنا الاتصال بالسيد نبيل وطلبنا منه توضيح الإجراءات المعمول بها للدخول إلى مصلحة حفظ الجثث، ومن ثم التعرف على من هم محل بحث من المفقودين. * لعنة الإجراءات تزيد لهيب حسرة أهالي المفقودين * وزادت معاناة مرافقينا، بعد استفسارنا عن الإجراءات المتبعة لمحاولة التعرف على هوية أصحاب الجثث المتواجدة بالمستشفى من خلال إلقاء نظرة على الأقل عليها، خاصة وأن محدثنا أعرب عن مساندته لنا. لكن وفق الإجراءات القانونية التي تتمثل في تقديم طلب إلى معتمدية بنزرت (البلدية) والتي تحوّله بدورها إلى السلطات القضائية، ومن ثمة إعطاء تصريح بالدخول إلى المصلحة والتعرف على الجثة، خاصة وأننا أجانب. * ترقب إلى حين استيفاء الإجراءات * رجعنا إلى تراب الوطن والحيرة تسود نفوسنا، بعدما عشناه وما توصلنا إليه خلال أربعة أيام من البحث المتواصل، لكشف حقائق هي الأولى من نوعها منذ بداية القضية. * زيارة أويحيى أمل أهالي الحراڤة * ولعل ما رفع ولو شيئا قليلا من معنويات الأهالي المفجوعين، هو تزامن تواجدنا بتونس مع زيارة الوزير الأول أحمد أويحيى إلى الجمهورية التونسية، ما دفع بأهالي الحراڤة إلى الإصرار أكثر مما مضى على تجديد ندائهم من خلال متابعة "النهار" للمأساة، آملين أن يكون ملف الحراڤة ضمن الملفات التي طرحت في أشغال الزيارة إلى حين عودتهم إلى بنزرت لاستكمال الإجراءات.