يلاحظ المتجول في بعض أحياء وشوارع العاصمة انتشار بعض الأفراد ممن يبدو عليهم الجنون سواء في طريقة الحديث واللباس والتصرفات، وكل من يراهم يؤكد أنه رفع عنهم القلم، ولكن لو اقتربت من بعضهم لوجدت أنهم على مستوى تعليمي عال، ومنهم من كان يشغل منصب عمل متميز، ليبقى التساؤل المطروح هل فعلا أن العبقرية وكثرة الانشغال بطلب العلم قد يؤدي إلى الجنون؟ هي حالات قد تكون مختلفة عن مثيلاتها في كونهم يتميزون بمستوى دراسي عال ومشوار تعليمي وعملي حافل، إلا أن مصيرهم كان أن يصنفوا في قائمة المجانين لسبب أو لآخر. "فاطمة" تلقب بالمجنونة رغم أنها أستاذة جامعية متقاعدة في البداية لم نمتلك الجرأة الكافية للحديث مع بعض هؤلاء بعد أن سمعنا أنهم يعانون من الجنون وقد تصدر منهم أي تصرفات خطيرة، غير أن نظرتنا تغيرت بالنسبة لبعضهم، خاصة بعد أن التقينا ب"فاطمة" عجوز في السيتينيات من العمر والتي كانت تنتظر دورها لاستخراج شهادة السوابق العدلية، إلا أنها فقدت صوابها بعد مدة من الانتظار وصارت تسب وتشتم وسط الطابور وتتمتم بكلمات بينها وبين نفسها حتى صار الجميع ينعتها بالمجنونة ويطلبون أن تكون في أول الصف، إلا أن استخراجها لوثيقتها لم يشف غليلها وبقيت تنتقد سلوكات الأفراد وسوء التسيير والجميع مندهش من إتقانها الحديث باللغة الفرنسية رغم أن من يراها يؤكد أنها فاقدة لصوابها، وخلال حديثها مع "السلام اليوم" أكدت "فاطمة" أن الجميع ينعتها بالمجنونة، ولكنها لا ترى نفسها هكذا، خاصة أنها أستاذة جامعية متقاعدة وقد أدّت دورها كعضو فعال في المجتمع سواء في عملها بالجامعة أو كونها أما أنجبت ثلاثة أبناء كلهم في ميدان الطب والهندسة. "محمد" 60 سنة هو الآخر، سبق وأن نصب خيمة بالقرب من إحدى بلديات العاصمة، وكل من يراه ويتعامل معه يجزم أنه فاقد لوعيه، إلا أن بعض من يعرفون "عمي محمد" تمام المعرفة يؤكدون أن الظروف التي مرّ بها هي سبب فقدانه للتوازن النفسي، فقد وجد نفسه وحده مهدّدا بالطرد من بيته من طرف زوجات من قدّم لهم كل حياته، وكان لهم الأب والأم، إلا أن ما يثير الاستغراب هو أن "عمي محمد" لم يأخذ معه شيئا سوى العلب الكرتونية التي كانت تحتوي على كتب من مختلف اللغات، وعندما استفسرنا عن هذا، قيل لنا أن الإشاعات تقول أن "محمد" فقد صوابه من كثرة القراءة وقد نصب خيمة ليحصل على بيت منفرد يجعل منه مكتبة خاصة له لا يدخلها أحد على حد قول بعض من يعرفونه. "الهندي" يجوب شوارع القبة ويجمع كل ورقة بها كتابة وآخر ينظم حركة المرور هو شاب في الثلاثينات من العمر، جعل لنفسه شكلا غريبا بلباسه وشعره الطويل والريشة التي يربطها حول محيط رأسه حتى لقب ب"الهندي"، وصار يجوب أحياء القبة ليجمع كل ورقة تحتوي على كتابة مهما كانت، إلا أنها مهمة جدا له، فهو يراها معلومات يجب أن يقرأها ويخبئها، هذا ما قاله بعض من يعرفون الشخص، مؤكدين أنه جنّ من كثرة الدراسة، فهو حاصل على شهادة عليا حسب شهادة البعض، والأمر نفسه بالنسبة لمواطن آخر وجد من مفترق الطرق بمدخل منطقة عين النعجة مكانا لعمله اليومي، فهو يلتحق بهذا المكان منذ الصباح الباكر وبيده صفارة ليقوم بتنظيم حركة المرور، وحسب الإشاعات المتداولة حول هذا الشخص، أنه كان عون أمن في صفوف الشرطة وقد فقد صوابه بعد اعتداء إرهابي. شاب آخر فقد توازنه العقلي بعد تخرجه من الجامعة كتقني سامي في الهندسة الميكانيكية، إلا أن فرحته لم تكتمل، فكانت صدمة كبيرة لعائلته، خاصة بعد ما عجز الأطباء عن تشخيص حالته والوقوف على أسبابها، إلا أن النتيجة كانت صدمة نفسية حادة جعلته يفقد صوابه ولم تجدي الجلسات النفسية ولا الرقية الشرعية نفعا. حالات أخرى غير مختلفة كثيرا عن سابقتها ولكن هذه المرة لأشخاص كانوا في مناصب عمل متميزة، ولكن إحالتهم على التقاعد عنوة كان سببا في جنون بعضهم وهي حال "حسين" 47 سنة، إطار سام في المالية بإحدى الشركات العمومية، وضحت زوجته عن حالة زوجها أنها نتيجة إحالته على التقاعد قبل السن القانونيو، وطرد كل من ابنه وابنته اللذان كانا يشغلان مناصب هامة في ذات الشركة التي كان والدهم مسؤولا عن ماليتها، وهو ما لم يتقبله الرجل بسهولة وصار يتجه للشركة يوميا ويطلب الدخول إليها، كما وضع أدوات مكتبه أمام الشركة ما استدعى تدخل قوات الأمن لطرده لأكثر من مرة، ولكنه بينه وبين نفسه لازال إطارا ساميا فهو لا يرتدي سوى البدلة الرسمية ولا يخرج بدون حقيبته المخصصة لملفات العمل. ليس هناك علاقة مباشرة بين كثرة طلب العلم والإصابة بالجنون إلا في حالات نادرة وفي تفسير حالات الجنون عند بعض الفئات الاجتماعية ممن يتميزون بمستوى تعليمي عال أو من كانوا يشغلون مناصب مهمة، يؤكد أخصائيو علم النفس أن بعض هؤلاء يتعرضون لنوبات القلق واضطراب نفسي حاد قد يؤدي بهم إلى فقدان التوازن العقلي، وفي هذا السياق توضح "أم إكرام" أخصائية في علم النفس أن المجنون بصورة عامة هو فرد تصدر منه تصرفات جد غريبة، وقد يؤذي من حوله دون أن يعي ذلك، كما أنه صاحب شخصية مضطربة، وهذا ينطبق على كل الناس باختلاف مستواهم التعليمي، تضيف قائلة "إن التاريخ يشير إلى أن الكثير من العلماء والعباقرة من الفلاسفة، الكتاب والفنانين وبعض الشخصيات التاريخية كانوا على درجة معينة في الاضطرابات، وبعضهم كانوا يبدون غير طبيعيين، ومنهم من وصل إلى قمة الجنون، إلا أنهم تجاوزوا مشاكلهم النفسية والعقلية من خلال ما كانوا ينجزونه، ولكن هذا لا يعني أن هناك علاقة بين كثرة طلب العلم أو الشعور بالعظمة والإصابة بالجنون". إلا أن التفسير الوحيد الذي يمكن تقديمه على حد شرح المتحدثة هو وجود عقد نفسية دفينة عند مثل هؤلاء يصعب عليهم في البداية الاعتراف بها، ولكنها سرعان ما تظهر وقد تتطور إلى حالة جنون بعد أول تجربة فاشلة وأحيانا تحدث هذه الحالات بسبب عدم تقبّل العقل لوضعية مفاجئة، إلا أن الأخصائية تشير إلى أنه ينبغي التفرقة بين الجنون الذي يصاب به بعض العباقرة والذي له علاقة بالدرجة الأولى بانغماسهم في أعمالهم العلمية، ولكنهم لا يؤذون لا أنفسهم ولا غيرهم، وبين الجنون الذي معناه أن الفرد يفقد القدرة على التمييز بين الأشياء فيصبح فردا خطيرا في مجتمعه، تضيف في نفس الجانب "إن الجنون عند البعض قد يبدأ باضطراب نفسي يكون بسبب عزلة الفرد عن محيطه وتفرغه لميدان علمي معين حتى يجد نفسه وكأنه يعيش في عالم لوحده فيكون ذلك العلم هو صديقه الوحيد الذي يواسيه في عزلته، ولكن حقيقة تلك الشخصيات في الأصل حالات مرضية مختلفة لا تكون واضحة على الفرد في البداية، وهو ما يفسّر أن بعض المناصب لا يمكن قبول الفرد فيها، إلاّ إذا كان متوازنا نفسيا، وأحيانا تكون هناك علاقة بين الضغط الموجود في عمل الفرد أو في مساره العلمي، وبين إصابته بالجنون كما يكون الفرد معرضا للجنون إذا كان من الأفراد الذين يدمنون على تعاطي المخدرات والكحوليات بطريقة مفرطة. كما يلاحظ على أغلب أولئك أنهم يحرصون على السهر ليلا وأحيانا لا ينامون وهم يدرسون وسط فناجين القهوة والشاي، وهذه المنبهات مع قلة النوم تحدث اضطرابات في الأعصاب مع مرور الوقت، ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك بعض الحالات التي ليس لها علاقة بين كثرة الدراسة والرغبة في اكتشاف العلوم وبين الجنون".هذا وتوضح الأخصائية أن انغماس الفرد في طلب العلم قد يكون محاولة منه ليخلق لنفسه حالة من التوازن من خلال قراءة كل ما يجده أمامه بصورة مفرطة، إلا أن ذلك يكون عند فئة معينة من الناس الذين يصرّون على البحث والاكتشاف، لأن الفرد العادي قد يميل لنفس السلوكات، ولكن لا يكون الجانب الوحيد الذي يبني عليه حياته، تفصل أكثر "يوجد بعض الأفراد لا يفعلون ولا يفكرون في شيء في حياتهم، إلا في الدراسة والبحث، كما أنهم لا يولون أهمية إلى جانب مهم في حياتهم وهو البحث عن الشريك الآخر، تأسيس أسرة وإنجاب الأولاد، فتكون دراستهم هي كل حياتهم، كما أن بعضهم يصابون بحالة القلق الشديد والهوس، وقد يكون سبب ذلك المواقف التي يتعرضون لها أو الكتب التي يقرأونها، وفي حال لم يصلوا إلى ما أرادوا قد يصابون بحالة من اليأس الشديد الذي يؤدي إلى جنون البعض وإقدام آخرين على وضع حد لحياتهم".من جانب آخر، تؤكد أخصائية علم النفس أن مثل تلك الفئات أغلبهم كانوا أشخاصا عاديين، ولكن لهم قدرات عالية تميزهم عن غيرهم، وقد اصطدموا بمواقف كانت سببا في فقدانهم لتوازنهم وأحيانا تكون مجرد أعراض توتر نفسي شديد وليس جنونا، كما يعتقده أغلب الناس، إضافة إلى أن بعض الناس مصابون بالنرجسية وحب الشهرة والمال ولا يتقبلون إذا ما انتزعت منهم لتكون الصدمة سببا في فقدانهم لصوابهم.