زادت ضغوط الحياة بشكل كبير جدا وتراكمت معها المشاكل فأصبح الإنسان عرضة للعديد من الانتكاسات والأمراض النفسية وأحيانا حتى الانهيارات العصبية، حتى أصبحت تنافس بدرجة كبيرة الأمراض العضوية، ورغم انتشار العديد من عيادات الطب النفسي عبر ربوع الجزائر، إلا أنه وفي ظل انعدام ثقافة العلاج الروحي واعتبار كل من تطأ قدماه هذا النوع من العيادات إنسانا مجنونا، وهو ما جعل الكثير يحجم عنها ويفضل الكبت، دون الأخذ في الحسبان احتمال تأزم حالاتهم وجني نتائج لا تحمد عقباها. والأخطر أنهم أصبحوا يفضلون العرافات والمشعوذين وكل أشكال الطب الروحي، حتى وإن كلفهم ذلك دفع الملايين، فلماذا هذا العزوف عند الجزائريين عن طلب خدمات الطب النفسي؟ خاصة المثقفين منهم، رغم أنه علم يدرس بالجامعات؟ ولماذا لم يواكب ما يعرفه المجتمع الجزائري من تغيرات، ثم لماذا يغيب به الاهتمام حتى في المؤسسات التربوية رغم تنامي العنف؟ بيوت شياطين منتشرة كالفطر ومشعوذون ببطاقات خاصة الحقيقة التي لا يختلف عليها اليوم اثنان أن خدمات الطب الروحي بمن فيهم الرقاة الشرعيين الذين يعالجون بكتاب الله، خاصة أن هذا الطرح دعمه أكثر توظيف الإعلام الثقيل، حيث أن الكثير من القنوات التلفزيونية أصبحت تفرد وعلى المباشر ببرامج مطولة للرقية، خاصة في ظل الإقبال المتزايد للمشاهد على طلبها والتشبث بكل ما يذكر فيه اسم الله، دون حتى أن يتيقن إن كانت رقية شرعية أم لا؟ والأمر سيان للكثير من المشعوذين والدجالين الذين يتحالفون مع الجن لعلاج زبائن أغلبهم يعانون أمراضا تشخيصها عندهم لا يخرج عن ثلاث حالات، «السحر» أو «العين» أو «المس»، والأدهى أن الكثير من الأمراض العضوية التي لا يختلف عليها اثنان يؤكدون أن سببها الجن والقول بالأمور الغيبية أمر شجع على انتشار الرقاة بشكل رهيب جدا، وفي الكثير من الأحيان رقية بالتسمية لا غير وذلك على اعتبار تغييب شروطها، والأكثر أنهم أصبحوا يحددون مبالغ العلاج ويوزعون بطاقاتهم الشخصية على الزبائن، ويطبون حتى على المواطن عبر الكثير من صفحات الجرائد الصفراء يشخصون دائهم ويصفون "دوائهم"، حتى بيوت الشياطين انتشرت عبر الوطن كالفطر حتى في الأماكن المحافظة، وتفوقت على عيادات الأطباء وأصبحت تنافس حتى الرقاة، فالسواد الأعظم من الجزائريين لا يؤمن في غياب المرض العضوي إلا بالسحر والعين والمس، كما أنه يستحيل على أي راقي شرعي أو حتى ساحر أو مشعوذ أن يترك من يقصده دون أن يؤكد له أنه يعاني من مس جني أو عين حسود، فيما يؤكد هؤلاء الانتهازيين وبصورة كبيرة لعديد الحالات التي تقبل عليهم إصابتهم بالسحر، ففي غياب الوازع الديني والإيمان العميق لا يجد هؤلاء إلا السحرة والمشعوذين لعلاجهم حتى وإن حرم الله ذلك، وأكد أنه الشرك بعينه. زبائنهم مثقفون وحملة شهادات عليا والمؤسف أن الأمر لم يعد مقتصرا فقط على الأميين والجهلة أو غير الملمين بأحكام كتاب الله، بل إن الكثير من الزبائن من خريجي الجامعات ومن حملة الشهادات العليا، متيقنين أن ما يقدمون عليه يغضب الله ومحرم قطعا لكنهم لا يبالون، ونجد بالمقابل الكثير من العيادات الطبية هجرها الكثير من الزبائن ومداخليها لا ترقى لنصف مداخيل بيوت الشياطين، أما عيادات الطب النفسي فحدث ولا حرج، فهي لم تستقطب اهتمام المواطن لا في القديم ولا في الوقت الراهن، رغم أنه بعد الظروف العصيبة التي مرت بها الجزائر وسنوات الدم وما ألم بضحايا المأساة الوطنية، كان يفترض أن يزيد الطلب على خدماته وأن يعالج الكثير من الترسبات التي بقيت بداخلهم والتي تصبح مع مرور عقد نفسية واضطرابات عقلية لا تحد من خطورتها إلا العقاقير والحبوب المهلوسة، وقد تؤدي حتى إلى الجنون، أمور كان يمكن تجنبها لو أن الإنسان أدرك أن النفس كالجسد تصاب بأمراض وعلل ومثله يمكن أن تطبب، لكن قلة من يؤمنون بهذا الطرح ويقبلون على زيارة الطبيب النفسي يطلبون نصحه وعلاجه وفي الكثير من الأحيان خلسة وبعيدا عن الأعينّّ. في غياب ثقافة الطب النفسي ...المرض النفسي والجنون سواء وأنت تسير اليوم في الشارع ومن النادر ألا تصادف مجانين يتسكعون في الشوارع، يرددون كلاما يلفت الانتباه، بعضه قد يحكي جزءًا من مأساة هؤلاء التي أتت على عقولهم وجردتهم من نعمتها، مجانين ما كانوا قبل اليوم يثيرون انتباه المارة كثيرا، فما يحدث الآن أن الكثير منا ما عاد يميز بين العاقل والمجنون، مادام عدد كبير منهم يبدون في مظاهر أنيقة ويتكلمون كلاما ينم عن ثقافة كبيرة كان يتمتع بها هؤلاء قبل أن تسلبهم ضغوط الحياة وربما طبيعة ما كانوا يشغلونه من مناصب حساسة نعمة العقل، كلام هم جله في السياسة، مجانين أصبح الكثير يلقبهم ب"المجانين العقلاء"، ولا يتردد كل من يراهم يؤكد أن ما حل بهم من انهيار عصبي كان جراء ظروف قاسية ومؤلمة مروا بها وعجزت أعصابهم عن تحملها،ّ خاصة مع التحولات الاجتماعية الكبيرة التي عرفتها الجزائر وانصراف الفرد للاهتمام بالجانب العضوي منه دون أن يهتم بالجانب النفسي، رغم أن الكثير من الدراسات الحديثة تؤكد أن المشاكل النفسية هي السبب في الكثير من الأمراض العضوية، لكن لا يبالون لتراكم الأمور مع الوقت، وما كان يمكن تحمله يصبح مستحيلا، ليجد نفسه وجها لوجه مع الجنون، وحتى وإن فكروا في العلاج فهم يتكتمون مخافة اتهامهم بالجنون، فالمرض النفسي عندهم جنون ولا شيء غير ذلك، وحتى المثقفون نظرتهم لا تختلف كثيرا عن هؤلاء، فإن بادروا بالعلاج لتعب نفسيتهم وتأزمها بعد أن تحملوا مسؤوليات أفقدتهم التوازن لثقل المسؤولية والتخوف الدائم من خطأ غير مسموح به أبدا، خاصة وأن بغضهم يضطر لترك الأهل والعيش في ظروف صعبة جدا، لكن علاجهم كثيرا ما يكون بعيدا عما تقوله ألسنة غيرهم، فمصطلح الطب النفسي ما زال لم يؤسس لنفسه مكانا في قاموسهم. خالد: «ترددي على أخصائي نفساني ما يزال سرا حتى على زوجتي» وحتى نقف ميدانيا على حجم الإقبال على عيادات الطب النفسي والدردشة مع بعض الزبائن، قادتنا زيارتنا إلى ثلاث عيادات بالجزائر العاصمة، ورغم أنها مشهورة إلا أنه وكما كان متوقعا فعدد زبائنها كان قليلا جدا، ومن الصعب أن تتحدث مع أحدهم، مادام أغلبهم حريصين على الحذر وكأنهم بمكان مشبوه، الوحيد الذي تمكنا من تجاذب أطراف الحديث معه زبون يدعى «خالد»، لكن دون أن يعرف هويتنا كان مهندسا بمؤسسة "سوناطراك" لم يفكر في زيارة الطبيب إلا بعد أن بدأت نفسيته تتدهور كثيرا، حتى أنه فقد الثقة في كل من حوله، فهو كما يقول في الكثير من الأحيان ودون أي سبب يجد نفسه يعيش الكآبة، وما زاد الطين بلة أن جسده أصبح مرتعا للكثير من الأمراض النفسية جراء الوساوس التي يعيشها، وكما يؤكد فما حل به كان نتيجة الضغوط الكبيرة التي عاشها في العمل، فقد اسند له مشروع على قدر كبير من الأهمية، بسببه كان كثير السفر إلى بعض ولايات الوطن التي يقيم فيها بالأسابيع، خاصة بالصحراء الشاسعة وفي أماكن منعزلة ولأن المشروع الذي كان يفترض أن ينجز في سنتين امتد إلى خمس سنوات كاملة، فضلا عن عديد المشاكل التي كادت تعصف بالمشروع، وجد هذا الأخير نفسه منهكا، فقرر أن يطرق باب الطب النفسي الذي نصحه به أحد أصدقائه، وكما يؤكد فحتى زوجته لا تعرف أنه يعالج حتى لا تتهمه بالجنون، لأن المجتمع لا يصنف المرضى النفسانيين إلا كمجانين، حتى وإن حاولت توضيح الأمر، فالفكرة راسخة. الطب النفسي في تصور الكثيرين مضيعة للوقت ليس إلا السيدة "سمية" هي الأخرى قررت أن تعالج بعد أن دخلت مرحلة اكتئاب أصبحت تشكل خطورة على حياتها، وزوجها كما تضيف هو من أقنعها بالتوجه إلى أخصائي نفساني حتى لا تشتت أسرتها، فمنذ أن حصدت آلة الإرهاب الأعمى أسرتها إمام عينيها ذات شتاء ممطر وقام الفاعلون باغتصابها، وتمكنت لحسن حظها بعدها من الفرار من موت محقق، ها هي اليوم تعاني لكنها في كل الأحوال ترفض أن يعرف الناس أنها تعالج حتى لا يتهمونها هي الأخرى بالجنون. "سارة" أيضا نموذج صارخ لمن يعالج لكن خلسة، رغم أنها طالبة جامعية، وكما تروى لنا فالراقي هو من نصحها بالطبيب النفسي حتى يساعدها في الشفاء، وعن سبب رفضها في أن يعرف الناس في خضوعها لهذا النوع من العلاج أفادت قائلة"أنا لست مجنونة"، وقد لمسنا من خلال تحاورنا وإياها أن أفكارها لا تختلف عن غيرها، فالمرض النفسي والجنون عند الكثير من الجزائريين واحد، لذا يفضلون باقي العلاج حتى وإن كان محرما، فبعض من يترددون على المشعوذين بحثا عن الدواء لم يشفوا من عللهم رغم مرور عدة أشهر، وهم في الآن نفسه يرفضون الطب النفسي، ولا أحد يفكر حتى في التجريب لأنه بتصورهم مضيعة للوقت ليس إلا. استفحال العنف بالمدارس والجامعات يقابله حضور شكلي للمستشارين النفسانيين انتشر العنف بشكل كبير داخل المؤسسات التربوية وبمختلف الأطوار، والملاحظ أن كل ما يشاهد من قبلهم عبر الشاشات يحاولون تطبيقه ميدانيا، ماداموا يريدون مثلا حاليا، ليكونوا أبطالا على شاكلة "مراد علم دار" بطل المسلسل التركي «وادي الذئاب»، والذي بسببه كاد أن يتسبب طفل لا يتجاوز 9 سنوات في حرق بيته، والأكثر أنه أصبح لا يتكلم إلا لغة التهديد والوعيد وحتى فقأ العيون والقتل، والمؤسف أن الكثير من الاعتداءات تنتهي أحيانا بجرائم قتل، خاصة إذا تعلق الأمر بمراهقين، بعضهم تحت تأثير الأقراص المهلوسة التي امتدت إلى مؤسساتنا التربوية وحتى جامعاتنا لم تعد بمنأى عن هذه المآسي، فالحرم الجامعي اهتز أكثر من مرة على وقع جرائم قتل، دون أن يستدعي الأمر تدخل الجهات المعنية وإيلاء الموضوع أهمية أكبر بتفعيل دور المستشارين النفسانيين أكثر أو حتى تدعيم المدارس بأطباء نفسانيين، فحتى الإصلاحات التي مست مؤخرا المنظومة التربوية لم تتحدث عن هذا الجانب رغم أهميته القصوى، ففي كل مرة يكثر الحديث عن تفشي العنف ومدى تأثير "صندوق العجب" على أبنائنا وإسهامه في انحراف سلوكهم، لكن دون العمل على إيجاد حلول عملية وتكثيف عمل هؤلاء المستشارين النفسانيين على الأقل، والأهم من هذا تشجيع أبنائنا وتوعيتهم والسعي إلى غرس أهمية العلاج النفسي حتى تمح فكرة أن المريض النفسي هو مجنون حتما، فما يحدث بالمدارس في الحقيقة نموذج مصغر لما ينتشر من أفكار داخل المجتمع، والأهم أن طفل اليوم هو شاب الغد ولابد من توعيته حتى نؤسس لثقافة جديدة تسقط فيها الأفكار الخاطئة التي تحرم المواطن من علاج نفسيته. الطب النفسي..ضحية أفكار مسبقة وثقافة خاطئة كانت لنا الفرصة لندردش مع بعض الأطباء الذين أبدى بعضهم أسفه لما يحمله الجزائريون من أفكار سلبية امتدت حتى أوساط المثقفين، مستغربين من درجة التخلف الفكري الذي يجعل البعض يرفض العلاج ويعرض نفسه لاحتمال الإصابة بعقد نفسية والبحث عن علاج مجدي، فالعلاج النفسي اليوم ومع ما تعرفه المجتمعات من ضغوطات نتيجة المدنية أصبح من الأمور الحتمية، لكن وبخلاف ما تعرفه باقي البلدان الغربية فإن بعض البلدان العربية لا تؤمن بهذا العلاج وإن اعترفت به فالتخوف من المجتمع يبقى كبيرا جدا، تخوف يبلغ ذروته عند الجزائري الذي يرفض أن يتهم بالجنون، وكما يؤكد رغم السرية التي يوفرها الطبيب النفسي لزبائنه فمن الصعب الوثوق وفتح قلبه لأي كان حتى وإن كان الأمر يتعلق بطبيب يمد له يد العون، وإن فكر في فتحه فيفضل الصديق على الطبيب رغم أن الصديق لا يمكن أن يقدم له الكثير، وفي حال تفاقم المشكل يفضل المشعوذين الذين يوهمونه أن ما يعانيه يتعلق بمس أو سحر، ومن شدة إيمانه بكلامهم فإن الكثير من أعراض المس تتهيأ لهم كتحريك أحد أطراف الجسم مثلا، فبعض الأمراض النفسية تدخل الإنسان إلى عوالم أخرى، غالبا ما تكون نهايتها غير محمودة العواقب، وفي السياق ذاته يؤكد أن الإعلام يتحمل جزءًا كبيرا عن الأفكار الخاطئة التي يحملها المواطن عن الطب النفسي خاصة الإعلام الثقيل، فلابد من التوعية وتفعيل دور الطب النفسي أكثر، لأن دوره اليوم أصبح مطلوبا بدرجة كبيرة جدا، فما يعرفه المجتمع من انحلال وانتشار غير مسبوق للمشاكل النفسية والانهيارات العصبية، يمكن الحد منها أو على الأقل التقليل منها لو وثق المواطن في الطب النفسي. ثقافة خاطئة غيبت أحد أهم الحلول للعديد من المشاكل التي يعرفها المجتمع الذي تراكمت عليه المشاكل، وجد نفسه رهينة القلق والوساوس، ليصبح في حاجة ماسة إلى علاج يساعده على تجاوز مشاكله وهمومه التي لا تنتهي، والتي يبق الطب النفسي أحد أهمها، لذا ينبغي تجنيد كل الوسائل لترسيخ مفاهيم جديدة تعطى الطب النفسي مكانته التي يستحقها في عصر الشد على الأعصاب، فهو عصر السرعة في كل شيء، رحلة تبدأ بالمدرسة أهم لبنة لترسيخ الأفكار، فعلاج النفس من عللها أصبح اليوم من الأولويات وإعادة الاعتبار للطب النفسي أصبح من أولوية الأولويات.