يثمن باحثون ومؤرخون نجاح الجزائر في استرجاع قسط من ذاكرتها «المهرّبة»، رغم استمرار المماطلة الفرنسية على مدار الخمسين سنة المنقضية، بيد أنّ من تحدثوا إلى «السلام» يشددون على أنّه لا بدّ من حسم رهان استعادة الأرشيف خلال المرحلة المقبلة، مشيرين إلى أنّ قسم هائل من تاريخ الجزائر لا يزال مبعثرا بالخارج، سيما بفرنسا وتركيا والولايات المتحدةالأمريكية، وبريطانيا ودول اسكندنافية أخرى. في تصريحات خاصة ب»السلام»، يركّز مختصون أنّ العشريات الخمس المنقضية لم تشهد إحرازات كثيرة على صعيد استرجاع الأرشيف، سواء الوثائق ذات الطابع التأريخي أو الخرائط ذات الصلة بأماكن دفن النفايات السامة والمواد المشعة، التي تشكل تهديدا خطيرا للإنسان والبيئة في الجزائر. ويركّز هؤلاء على ضرورة أن يشهد الشوط القادم، فتح الأرشيف النووي لإدراك حقيقة ال17 تفجيرا نوويا التي نفذتها فرنسا بين 13 فيفري 1960 و16 نوفمبر 1966، وأسفرت عن مقتل نحو 42 ألف شخص استخدمتهم فرنسا ك»فئران تجارب»، في تجارب نووية فاقت قوتها التفجيرية خمسة أضعاف قنبلة هيروشيما، وتطالب جهات كثيرة الطرف الفرنسي بفتح الأرشيف النووي. بهذا الشأن، يفيد عبد القادر بوسلهام الدبلوماسي الجزائري السابق: «أنه من العار أن لا نستطيع الإطلاع على أرشيفنا الموجود في مدن غربية عديدة، على غرار فرانكفورت، جنيف، واشنطن، باريس وأنقرة، إضافة إلى مقر الصليب الأحمر الدولي، فيما استبعد عبد المجيد شيخي المدير العام للمركز الجزائري للأرشيف، أن تسلم فرنسا الأرشيف الجزائري الكامل الذي تستحوذ عليه، وقال شيخي إنّ فرنسا لن تتجاوب طالما أنّها تعتبر هذا الأرشيف «سرا دفاعيا فرنسيا». ورأى المؤرخ الجزائري المعروف محمد القورصو، أنّ استعادة الأرشيف مرهون بزوال نفوذ الأقدام السوداء (قدامى المستوطنين الفرنسيين في الجزائر)، وقد هدّد بعض من هؤلاء بحرق مقر الأرشيف بمنطقة «أكس أون بروفنس» جنوبفرنسا. ويقول باحثون ل»السلام» إنّ الأرشيف المُصادَر من طرف فرنسا، يغطي زمن التواجد العثماني بالجزائر، إذ يعود إلى سنة 1516 بالإضافة إلى وثائق هامة سبقت الغزو الفرنسي للجزائر، ووثائق أخرى تتعلق بكل الممارسات التي قام بها النظام الكولونيالي الفرنسي بالجزائر، من مراسلات رسمية وأوامر بالقتل والاعتقال، وإحصائيات موثقة لكل ضحايا الممارسات الفرنسية البشعة، ولائحة بأسماء الحركى الذي خانوا بلادهم، ووثائق أخرى هامة حول فترات دقيقة من تاريخ الجزائر، تتوزع بين مداولات الجهاز القضائي الفرنسي في الجزائر، ومراسلات رسمية لثوار جزائريين، وما طبع حكاية (فصل صحراء الجزائر عن الشمال)، وقد وضع المشرّع الفرنسي شروطا تعجيزية تقضي بانقضاء مائة سنة للاطلاع عليه. من جهتها، تلاحظ المحامية البارزة فاطمة الزهراء بن براهم، أنّ معظم الأرشيف الجزائري بين القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر، لا يزال مبعثرا بالخارج، سيما بفرنسا وتركيا والولايات المتحدةالأمريكية، وبريطانيا ودول اسكندنافية أخرى، وأضافت أن قضية المطالبة به باتت صعبة جدا، سيما لدى السلطات الفرنسية، كونها وضعت قوانين مشددة للاطلاع عليه، وتنظر بن براهم كما حقوقيون آخرون بأنّ الفيتو الفرنسي مردّه خشية ساستها من استخدام الأرشيف لإدانة باريس بجرائم الحرب التي ارتكبتها، والمصنفة في خانة «إبادة عامة ضد الإنسانية»، وعلى هذا وضع الإليزيه وتوابعه قيودا مدروسة. من جانبه، حرص عبد المجيد شيخي المدير العام لمركز الأرشيف الوطني، على التأكيد بأنّ قضية استرجاع الأرشيف الجزائري من فرنسا «سياسية» تتصل بإرادة البلدين»، مؤكدا أن الجزائر تعمل على استرجاع أرشيفها الوطني من كل الدول المعنية. وأوضح المدير العام للأرشيف الوطني أن مسألة استرجاع الأرشيف تندرج ضمن العلاقات الدولية بين الجزائروفرنسا وهي مسألة سياسية تتصل بإرادة البلدين، مفندا ما راج حول استعداد فرنسا لتسليم أرشيف ما قبل الاستقلال إلى الجزائر بمناسبة إحياء الذكرى الخمسين للاستقلال قائلا: «الأمر غير صحيح ولم أسمع بذلك بتاتا». وأشار شيخي إلى أن قيام السلطات الفرنسية بفتح الأرشيف الجزائري مسألة تخص فرنسا لوحدها لأن فتح الأرشيف يتم على ترابها. وفي هذا الصدد دعا إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي فتح الأرشيف واسترجاع الأرشيف لأنهما لا يحملان نفس المعنى. وأبرز أن الجزائرتتعامل مع ملف الأرشيف بكل موضوعية، مشيرا إلى أنها تعمل جاهدة على تذليل الصعاب. وحول العلاقات بين مؤسستي الأرشيف في البلدين أفاد شيخي أنه قام بزيارة منذ أيام إلى الأرشيف العسكري في باريس يندرج في إطار الزيارات المتبادلة بين الأرشيف الوطني ودار الأرشيف الفرنسية، مؤكدا أن التعاملات بيم الطرفين عادية وتتضمن تبادل الزيارات والتكوين. بيد أنّ شيخي يستبعد أن تسلم فرنسا أرشيفها المتعلق بملف نشاطها النووي في صحراء الجزائر، ويبرر شيخي نظرته بكون فرنسا تعتبر هذا الأرشيف من أسرار دفاعها القومي، رغم خطورة انعكاسات رفضها تحديد مكان دفن النفايات المشعة التي تشكل تهديدا خطيرا للجزائريين، ويتصور شيخي أستاذ التاريخ في جامعة الجزائر، أنّ المطلوب اليوم من فرنسا هو الاعتراف أولا بالمسؤولية، في وقت يلفت الأستاذ محمد القورصو رئيس جمعية 8 ماي 1945، إلى أنّ اتصالات جرت بين 1980 و1981 بين مركز الأرشيف الوطني ومصلحة الأرشيف التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية كانت على وشك الانتهاء، لكن تهديد بعض الأقدام السود بحرق مقر أرشيف «أكس أون بروفنس» جنوبفرنسا، أجهضت الاتفاق، موضحا أن الحادث وقع في سياق رهانات الانتخابات الفرنسية التي واجهت فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران آنذاك. ويرى محمد الشريف عباس وزير المجاهدين، بحساسية إرجاع السلطات الفرنسية أرشيف الثورة، ولم يعارض احتفاظها بنسخ منه، وقال إنّ المرجعية الأساسية للكتاب والمؤرخين هو الأرشيف الموجود لدى الفرنسيين، مضيفا أنّ المعلومات المعروضة للرأي العام تحمل مغالطات كثيرة ومشوهة لحقيقة الثورة التحريرية وتبيّض في نفس الوقت صورة المستعمر. وأوضح الوزير أنّ هناك (أرشيفا مغلقا ويوجد محلّ تستر)، وانتقد عباس التعامل الرسمي للدبلوماسية الفرنسية، قائلا إنّ موقفها تجاه المستعمرة القديمة، ينطوي على وجه واحد، ويكرّس التهرب من الواقع المفروض، رغم أنّ حقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، تماما كمحاولة البعض القفز على آلام الجزائريين. ولا يزال آلاف الضحايا وسكان المنطقة يطالبون بمعرفة حقيقة ما جرى، في وقت تبقى فرنسا مصرة على تحديد مكان دفن النفايات السامة والمواد المشعة التي تشكل تهديدا خطيرا للإنسان والبيئة في الجزائر، تماما مثل معضلة الألغام الفرنسية التي زرعتها فرنسا في الجزائر، حيث تسبّب 11 مليون لغم زرعها الجيش الفرنسي في الجزائر خلال ثورة التحررية (1954-1962)، في مقتل ما لا يقل عن 12 ألف شخص، بينهم 7328 جزائري خلال السنوات العشر الأخيرة، ناهيك عن تسببها في إعاقات وعاهات مستديمة لمئات الآخرين، وهي أرقام مخيفة برأي الخبراء، علما أنّ بيانات رسمية تؤكد أنّ ثلاثة ملايين لغم مضاد للأفراد، ما تزال مطمورة على طول الحدود الغربية والشرقية للجزائر شرقا وغربا بطول 1160 كلم، بعدما نجح جيشها في إتلاف ثمانية ملايين لغم خلال السنين الماضية. وقامت الجزائر في خريف 2007، بإرجاع دفعة من الأرشيف الجزائري، بعدما ظلت ترفض إرجاعه إلى مستعمرتها القديمة منذ استقلال الجزائر في ستينيات القرن الماضي، وشملت الدفعة الأولى من الأرشيف السمعي البصري، صورا محفوظة من طرف المؤسسة الفرنسية (إينا)، تتعلق أساسا بتاريخ الجزائر في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية (1940) إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية في جويلية 1962، وبلغ حجم الوثائق المسلمة نحو 1975 وثيقة بما يعادل 102 ساعة من البرامج، وأتت الخطوة تبعا للاتفاق المبرم بين الجزائروفرنسا مؤخرا، بعد سنوات طويلة من مطالبة الجزائر لباريس باسترداد كامل أرشيفها التاريخي الذي استحوذ عليه الغزاة لدى اجتياحهم الجزائر عام 1830. ويستهجن كثير من الخبراء والمؤرخين وكذا عموم الفاعلين في الأسرة الثورية والمجتمع المدني استمرار (التعنت الفرنسي) واكتفاء باريس بإقرار جزء يسير فقط من ذاكرة تاريخية لا تزال مجهولة المصير، في وقت برّر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، لدى زيارته الجزائر في شهر ديسمبر 2007، (التعاطي الباهت) لباريس مع المسألة برغبتها (تلافي كل مقاربة إيديولوجية وأي استخدام سياسي للموضوع)، رغم دلالة ورمزية هذا الأرشيف الذي يعدّ تاريخ الأمة وشهادة ميلاد الدولة الجزائرية وتطورها عبر التاريخ، ما سيسمح للمؤرخين والباحثين بإنجاز عدة دراسات حول التاريخ الجزائري بمختلف تجلياته تنظيميا، اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا وإداريا.