كثر الحديث مؤخرا عن غياب النكهة الرمضانية التي يقال أنها تختفي تدريجيا من عام لآخر، حيث يحّن الكثير من كبار السن إلى رمضان “زمان"، ويؤكدون في كل مناسبة أنّ هذا الشهر فقد العديد من المميزات التي لم يبق لها أثر سوى في ذاكرة المسنين. في حديثها عن الإختلافات التي طرأت على رمضان، قدّمت لنا المخضرمة نوّارة 65 سنة أوجه فرق عديدة، قائلة: “كنّا نشعر بمجيئ رمضان بشهر من قبل من خلال تلك الاستعدادات، خاصة أنّ الأسعار لم تكن ترهق كاهل المواطن كما هو الحال عليه اليوم، وكانت القناعة ميزة الكثير من الناس، كما كانت صور التآزر والتكافل قائمة بين أفراد المجتمع، ما قلّص عدد المتسولين هناك ولم يكونوا بالحجم الذي آلوا إليه اليوم”. «جهيدة” 58 سنة إحدى بنات القصبة، سألناها عن رأيها في نكهة رمضان فاندفعت وهي تحاول أن ترسم لنا صورة عن رمضان في ثمانينيات القرن الماضي، سواء من خلال التحضير له ومواكبة أيامه، مؤكدة أنّ العادات زالت في إطار التغييرات الجذرية التي يشهدها المجتمع. وراحت جهيدة تتحسّر وهي تتذّكر كيف كان سكان القصبة وكأنهم عائلة واحدة، حيث واظب أبناء الرعيل الأول على تبادل الأطباق، وكان من غير المعقول أن تشم رائحة طبق دون أن يتكرّم عليك جارك ويجعلك تتذوق، وتضيف جهيدة بحنين جارف: “كان الطبق السائد هو شوربة المقطفة، حيث تصنع هذه الأخيرة في البيت بطريقة تقليدية، كما غاب تماما ما يعرف عند أهل القصبة ب«النافخ” الذي كان يستعمل في إعداد بعض الأطباق التي يكون لها تأثير خاص”. قعدات وسط الدار اختفت من زوج عيون وأخواتها إنّ أكثر ما يغيب عن القصبة خلال رمضان هي تلك السهرات المميزة التي اشتهر بها سكانها منذ القدم، ولعل ترحيل العديد من أبنائها منذ ثمانينيات القرن الماضي، جعل تلك العادة تختفي تدريجيا. بهذا الشأن، تستطرد جهيدة: “لقد كنّا نجتمع في وسط الدويرة أو حتى على الأسطح، حيث نقيم جلسات نسائية خاصة تزينها تلك الصينيات المملوءة بفناجين الشاي ومختلف الحلويات التي تجلبها كل واحدة بعدما حرصت على تحضيرها في البيت لتكون البوقالات أكثر ما نتسامر عليه، وبعد أن تستمع كل واحدة لفألها تنصرف وكل واحدة تحمل أملا وتفاؤلا كبيرا بأن يتحقق ما كان في البوقالة التي كانت من نصيبها”. لكن اليوم – وبلسان عديد المخضرمين والمخضرمات – تغيّرت الأمور تماما وسط انغلاق مثير، إذ يرتضي كل واحد الانطواء على نفسه ويصد أبواب بيته ليكتفي “قصباجيو” هذا الزمان بما تعرضه الفضائيات التي اعتبرها البعض سببا في اندثار تلك الإجتماعات الحميمية. مدفع رمضان لازال راسخا في ذاكرة البعض سكان القصبة لا زالوا يحملون ذكريات خالدة عن رمضان “زمان” منهم العمّ منوّر 70 سنة الذي رحل من القصبة، ولكن لا زال يتذكّر رمضان في سنوات خلت حين كان يجتمع مع غيره من أبناء جيله. وبكثير من الحسرة والأسى، يقرّ العم منوّر أنّ الكثير من العادات الإجتماعية الحميدة اختفت من مجتمعنا الذي يسير نحو الانعزالية والانفرادية، بشكل جعل طباع الناس وأخلاقهم تهتز، أما عن أكثر ما يشتاق له العم منوّر، فهي طلقات المدفع التي كانت تدوّي معلنة عن موعد الإفطار، مردفا: “صحيح أنّه مضت 33 سنة عن اختفائه، لكن صوته يبقى محفورا في ذاكرتي”. هذا وأرجع بعض أبناء هذا الجيل اختفاء تلك العادات إلى تغيّرالعصر الذي صار يسير بوتيرة أكثر ديناميكية وسرعة، ما يفرض على الجميع مسايرتها، فيما أرجع البعض ذاك التواري إلى الظروف الاجتماعية الصعبة التي يعيشها المواطن، والتي تجعله لا يبالي كثيرا بتلك العادات، وعليه يردد البعض منهم شعارا مفاده “لكل زمن خصوصيته”.