حركية كبيرة تميز الوضعية العامة لأسواق المواشي عبر تراب ولاية الجلفة، مع اقتراب عيد الأضحى المبارك، حركية دؤوبة تصنعها أساطيل من الشاحنات القادمة من 47 ولاية في رحلة البحث عن المواشي خاصة رؤوس الأغنام التي بات الحصول عليها بأثمان معقولة ضرب من الخيال وسط منافسة شرسة بين بارونات تجارة اللحوم، الذين استحوذوا على غالبية رؤوس الأغنام التي تلج السوق ومهما كانت الأسعار. إن الزائر لأسواق المواشي بولاية الجلفة من عين وسارة والبيرين شمالا إلى مسعد جنوبا، ومن الإدريسية غربا مرورا بالجلفة إلى الفيض ودار الشيوخ شرقا، سيقف حتما على البراعة والدقة في تجسيد مختلف النظريات الاقتصادية بدءا بالميكيافلية “الغاية تبرر الوسيلة” إلى نظرية أو قانون “العرض والطلب”، أسعار تعدت حدود المعقول إلى اللامعقول، بقي المواطن – المغلوب على أمره – حائرا أمام جنون السوق ولهفة السماسرة على امتصاص ما تبقى من دماء المستهلك. لهيب الأسعار طال رؤوس المواشي حتى أن خروف العيد من الحجم المتوسط بات سعره يتعدى 20 ألف دينار، إلى نحو سيتم معه تسخير شهرية الزوالي خلال أكتوبر بالكامل لإقتناء شبه أضحية يسكت بها طلبات الأطفال و«تقرعيش” النساء. يحدث هذا في غياب تام لمصالح الرقابة وقمع الغش والمضاربة التي باتت المقياس الوحيد الذي يتحكم في السوق وأسعاره، والتي قفزت بين عشية وضحاها إلى الضعف بسبب هيمنة تجار الجملة من سماسرة ووسطاء الذين يستحوذون على النصيب الأكبر من رؤوس الماشية قبل حتى دخولها السوق. حتى أنهم وفي ردهم عن سؤال “السلام” أكدوا أنهم مرتبطين بإلتزامات وعقود مع مؤسسات حكومية خاصة العسكرية والأمنية ويجب الإيفاء بها ولو تطلب الأمر شراء رؤوس الماشية بضعف أسعارها، وهم مجبرون على ذلك مثلما أكد عليه المتعامل في هذا المجال السيد لونيس من الرويبة الذي وجدناه رفقة أسطول من الشاحنات المركونة على باب سوق البيرين، يستهدف الموالين لإقتناء رؤوس أغنامهم خرافا كانت أو كباشا وحتى نعاجا ورؤوس أبقار نظرا للإلتزامات وعقود التموين التي يرتبط بها مع العديد من المؤسسات الأمنية والجامعية في أكثر من ولاية. من جهتهم، وجد الموّالون ضالتهم وحوّلوا المواشي إلى “خبزة طايبة” يجنون عبرها ربحا وفيرا في وقت قصير، وأصبح هؤلاء يفضلون البيع بصيغة الجملة على التعامل بالقطعة وهم محقون في ذلك إلى أبعد الحدود.. أما المواطن المستهلك البسيط فالله يتولاه ما دام له رب يحميه من جشع هؤلاء.. فتصوروا خروف الأمس الذي كان ثمنه لا يتجاوز 15 ألف دينار في أحسن الأحوال أصبح اليوم محل تفاوض وبسعر تجاوز سقف 25 ألف دينار.. أما الكباش “الفحلة” ذات القرون الملتوية والبنية الضخمة ككباش الجلفة من سلالة “تعظميت” العالمية أو كباش سيدي خالد من بسكرة،فأسعارها أضحت أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة لا يقدر على سعرها إلا الشاطر حسن المقيم في فيلات وقصور المرادية، حيدرة و الأبيار.. أما الزوالي فإن ظفر ب”معزة” أو كيلوغرامات لحم معيز كان أو نعجة فإن ذلك قناعة تقيه اللهفة والفرجة على أسعار الثروات الحيوانية في ولاية سهبية تمتلك أكبر عدد من رؤوس الأغنام تعدى 3 ملايين رأس والتي طالما تغنت بها وزارة بن عيسى على ألحان تجارة بن بادة. غلاء “الأعلاف”.. حجة جاهزة لاستنزاف الجيوب حرصا على تفكيك شفرة قانون العرض والطلب المطبق عبر أسواق المواشي في الجلفة، حاولنا التقرب من بعض الموالين خاصة القادمين من مناطق الجهة الجنوبية لولاية الجلفة للإستفسار عن السر وراء هذا الجنون في الأسعار، أين وجدنا البعض منهم مترددين في تنورينا بينما صاح البعض في وجهونا قائلين: “أين كنتم ونحن نتعرض لكافة أشكال الإبتزاز والمضاربة التي اعتمدها بارونات الأعلاف، وأين عديد الشكاوي التي تقدمنا بها للسلطات المحلية وعلى رأسها والي الولاية، أين كنتم عندما كنا نشتري القنطار الواحد من الشعير بأكثر من 4000 دج في الوقت الذي لا يتعدى سعره لدى دواوين الحبوب والبقول الجافة 1500دج للقنطار الواحد، ويضيف عمي أحمد، أحد موالي منطقة القديد “أسعار اليوم هي التي يفرضها منطق السوق فإذا كان سعر الكبش قد كلفني شخصيا أكثر من 25000 دج بين العلف والدواء دون الحديث عن التعب والمجهود الشاق. فما هو السعر الذي أبيعه به؟ ثم أن سعر الكلغ الواحد من اللحم لدى الجزارين تعدى 1000دج فبعملية حسابية بسيطة نجد أن الأسعار جد معقولة”. الموظفون بين “الكريدي” و”التقسيط” لا شك أنّ أكبر المتضررين في هذه الفوضى التي تعرفها أسواق المواشي، هم فئة الموظفين الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر إما المجازفة بشهرية كاملة لشراء شبه خروف حتى يتجنب صداع الزوجة والأولاد، وإما اللجوء إلى الكريدي أو ما يعرف بالشراء عن طريق التقسيط و هو الحل الأنسب الذي تلجأ إليه هذه الفئة الواسعة من المجتمع، وهو ما يؤكده السيد جيلالي، موظف بمديرية التربية بالجلفة الذي صارحنا بالقول: “منذ أكثر من خمس سنوات وأنا ألجأ إلى التقسيط عند إقتناء الأضحية، حيث نعمد إلى أحد الموالين ونتفق معه على هذه الصيغة التي تقبلها و نحن نتعامل معه لمدة خمس سنوات وهي الوسيلة الوحيدة التي بإمكاني من خلالها تأمين الأضحية للأولاد وأداء السنة المحمدية المؤكدة، وبخلاف ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال وبهذه الشهرية تأمين ولو جدي ماعز نظرا للغلاء الذي جاوز حدود المعقول خاصة بعد أن اختفت مساعدات الشؤون الإجتماعية التي كانت تتولى مهمة تأمين الأضاحي للموظفين”. بدورنا تركنا هذه الفئة وهي تجري عملياتها الحسابية وحاولنا البحث عن أضحية بثمن معقول لأنفسنا، وصدقا فإن أمثالنا لا يمكنهم اقتناء ولو حتى “معزة” فما بالك بكبش ينطح بقرونه وسعره، غادرنا السوق ولسان حالنا يردد “للزوالية رب يحميهم” ولا حول ولا قوة إلا بالله.