تشتهر مدينة عنابة بمرتفعها الشهير “سرايدي” (850 كلم فوق سطح البحر) الذي يمنح قاطنيه كما زواره قدرا نوعيا من الهواء النقي، تحوّل معه المكان إلى محج ليس إلى عشاق الطبيعة فحسب، بل إلى قبلة لمرضى الربو وكذا الهاربين من سياط التلوث، وفي جولة قادت مندوب “السلام” إلى المنطقة تسنى معاينة هذا الموقع الفريد المؤهل للعب أكثر من دور احتكاما لتنوعه ومكنوناته. على قمة جبل “أدوغ” المتشامخ، يترامى مرتفع سرايدي مانحا لرواده واجهة غنية مُشرّبة بصفاء الجبل وعبق البحر وسط الغابات والربوات الممتدة، وبمعية مرافقنا الفنان “شراد ناجم” كان الصعود إلى المرتفع ممتعا وحافلا بما سكبته وصنعته مآقي الطبيعة على إيقاع شتاء لم تشهده الجزائر منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي. يقول ناجم: “هنا بسرايدي كل شيئ متوفر.. نسيم الجو، روعة المناظر بين غابات آسرة وخلجان متوهجة تمكّن الخائضين فيها من اكتساب النشاط والخفة والرشاقة، في مقابل ثراء بيولوجي مكتنز بالأزهار الفوّاحة، وشجيرات الكرز، الأرز الأطلسي وثمار الفراولة”. بدوره، أشار العم كمال ابن المنطقة إلى كون سرايدي تصبح ديناميكية أكثر في مواسم الاصطياف، لكنّ بريقها يغري أيضا في مواسم الشتاء، حتى وإن عاشت سرايدي كغيرها من مناطق الجزائر حالة استثنائية من الصقيع خلال الشتاء المنقضي، ما أدى إلى عزلها لفترة بفعل الكميات الهائلة من الثلوج المتراكمة التي حولت المرتفع إلى بساط أبيض استهوى المتزلجين والفضوليين. وقبالة مركز الفنار، التقينا بنبيل، ساعد وحسين الذين أبرزوا تعلقهم بمكان ظلّ مهجورا لسنوات طويلة بسبب ما أفرزته حقبة العنف الدموي في البلاد، ويسجل الثلاثة أنّ سرايدي بقي عنوانا للجيولوجيا الحيوية حتى في عزّ البرد الذي يمنح نفحات منعشة تغذي صدور الغابات وتخلق للقاطنين والوافدين أجواء للمرح، ويردف الكهل بوبكر أنّه يبتهج لكثافة الثلوج التي تساعد على زراعة الزيتون، عبر ذوبانها البطيء وتغلغلها في مسام ترابي، ما يزيد من رفع منسوب مياه الوديان وتهييج مجاري المياه المتدفقة. ووسط توافد دائم لأفواج المستكشفين، يقول “كمال بلعابد” إنّ سرايدي لا تزال كنزا عذريا لم يٌكشف عن جميع مكوناته، بحكم ما ينطوي عليه من غطاء نباتي استثنائي، كما يرفض بلعابد اختزال البعض لسرايدي في مرتفعها فحسب، مركّزا على الخلجان المتعانقة التي لا تزال ثرواتها غير معروفة على وجه الدقة. بهذا الشأن، يتحدث باحثون عن تواجد كم كبير من الكائنات البحرية في خلجان سرايدي، من أسماك المرجان، الجمبري، السوندر، الشبوط الملكي بأنواعه الثلاثة، وصولا إلى البوري والمارو وغيرها، ناهيك عن الأصداف الحرية العملاقة (الباليت)، مرورا بالبط البري، اليمام، الحجل، دجاج الماء وبعض الحيوانات الغطّاسة. ويرى الدارس “مراد سحنوني” بأنّ سرايدي تصلح لأن تكون مخبرا نموذجيا متخصصا في الأنساق البيئية المزاوجة بين الجبل والبحر والغابة، ويتصور سحنوني أنّ الخطوة حساسة في ظلّ ما تواجهه البيئة المحلية من متغيرات وتحديات، على خلفية تناقص الموارد الطبيعية وتعاظم التلوث. كما يدرج محدثنا، أهمية ترقية نشاط ومشاركة مواطنيه في المحافظة على موروث سرايدي عبر الكف عن ممارسات مضرة بالمرتفع، وتوخي إستراتيجية تحسيسية تشرك جميعالفاعلين من سلطات ومجتمع مدني ومواطنين وإعلام.