باتت أزمة غلاء إيجار المنازل والفنادق تقف عائقا أمام العاملين والطلاب، سواء المتوافدين من الولايات البعيدة أو الأجانب الذين لايجدون ما يحميهم من الشارع سوى الإقامة بالورشات أوالحمامات لمواجهة ظروفهم الإجتماعية الصعبة. عرفت أسعار تأجير المنازل والفنادق إلتهابا كبيرا في السنوات الأخيرة، مما شكل صعوبة في العثور على محل إقامة يحمي محدودي الدخل من قسوة الشارع، فعادة ما تكون غرف الفنادق المتواجدة بالأحياء الشعبية الخيار الوحيد للعمال البسطاء الذين لا تتوافق رواتبهم مع الأسعار الخيالية التي يطلبها مالكو المنازل أو الفنادق الأخرى الفاخرة، بالرغم من إفتقادها لأدنى متطلبات الحياة مما جعل الكثير من العاملين يجدون صعوبة في التأقلم مع وضعية عملهم الجديدة بغياب محل الإقامة، فهي ظروف دفعت شباب من مختلف الأعمار لتحدي الظروف الصعبة ومواجهة العراقيل، قاطعين مسافات طويلة للعمل بالعاصمة لكنهم سرعان ما يقعون في شبح أزمة السكن فمنهم من إضطروا للبقاء بورشات العمل بالرغم من إفتقادها لمتطلبات الحياة وأخرين لم يملكوا من خيار سوى النوم بالحدائق العمومية وهم معرضون لمخاطر الشارع، كتضحية منهم لتوفير ما يتقاضونه من راتب يومي بسيط لإعالة أسرهم، في حين لم يجد أخرون سوى النوم ببعض الحمامات الشعبية هذا ما دفعنا للقيام بجولة ميدانية بساعات متأخرة من الليل بأحياء مختلفة، حيث إلتقينا ببعض عمال البناء الذين علمنا منهم أن ظروفهم الصعبة لم تمكنهم من البقاء في سكن لائق مما دفعهم إلى توفير الراتب الذي لايتجاوز حسب قول الكثير منهم ال500 دينار يوميا، فقد أكد لنا أحد الشباب من عاملي البناء الذين إلتقينا بهم أنهم يتحدون قسوة العمل وغياب السكن لإدخار المال لأسرهم المتواجدة بولايات بعيدة. غيرنا وجهتنا إلى الحدائق العمومية بعدما علمنا أن عدد لايستهان به من العاملين يقصدون هذا المكان ليلا للنوم، فأردنا الوقوف عند أسباب تواجدهم بهذا المكان، حيث يقول “سليمان” وهو رب عائلة مكونة من 5 أطفال: “لم أجد من خيار لمواجهة غلاء المعيشة سوى قطع مسافات طويلة من بوسعادة للعمل بالعاصمة في مجال البناء، لكني وجدت صعوبة كبيرة للتأقلم مع الوضع الجديد خاصة أني لم أعثر على مكان للإقامة به فلم أجد من بديل سوى قضاء الليل للنوم فوق كرسي هذه الحديقة كوني عاجز عن تسديد مستحقات حجز غرفة بفندق الذي يتجاوز ال1000دينار وهو ما يفوق راتبي اليومي الذي أرسله لإعالة أسرتي بشكل يومي. عمال بسطاء يقيمون في الحمامات لمواجهة غلاء السكن بالرغم من أن الحمامات كانت مخصصة في وقت سابق للإستحمام إلا أن مالكيها إستغلوا حاجة العمال سواء المحليين أو الأجانب لمكان للإقامة، وقد حولوها لغرف تأوي فئات مختلفة من العاملين محدودي الدخل القاطنين بالولايات البعيدة، والذين حاولوا التخلص من شبح البطالة بقطع مسافات طويلة لكنهم وقعوا في مشكل السكن الذي بات يعترض طريقهم بغلاء أسعار تأجير الغرف بالفنادق، فلم يجدوا سوى تلك الحمامات التي تفتح أبوابها ليلا لتأويهم بأسعار مغرية تتوافق مع دخلهم، حيث لمسنا الإزدحام على هذا المكان من قبل فئات مختلفة من العمال، وقد كان لنا لقاء مع مالك إحدى الحمامات المتواجدة بحي القصبة العتيق، حيث أخبرنا أن نشاط الحمام يتحول من مكان للإستحمام إلى مأوى للعمال البسطاء بحلول الظلام، كما أضاف لنا أنه يجذب أكبر عدد من الزبائن ليلا من العمال الذين يفضلون إدخار راتبهم على إنفاقه بغرف الفنادق الباهضة الثمن، وعن المقابل الذي يتقاضاه من العمال فيقول أنه يطلب منهم تقديم 150دينار للنوم بالمكان حيث تنتهي مهمته بتوفير الأغطية لهم. ومع أن المبلغ المطلوب من مالك الحمام ضئيل مقارنة بحجز غرف بالفنادق أو تأجير منزل، إلا أننا لاحظنا أن هذا المكان يفتقد لأدنى متطلبات الحياة، حيث يتقاسم العديد من العمال سواء الأجانب من جنسيات إفريقية أو المحليين نفس المعاناة، كما يتقاسمون نفس المساحة حيث لاحظنا غياب سبل التهوية ونقص الإمكانات الضرورية مما جعل هؤلاء العمال يضعون أغطية للنوم أرضا بغياب الآسرة بهذا الحمام، كما أنهم يتقاسمون المراحيض وهم يضحون بحياتهم أمام إمكانية إنتشار الأمراض المعدية وغياب سبل النظافة فقد علمنا من بعض الأفارقة أنهم يبذلون جهدا كبيرا بأعمالهم لكن أصحاب الشركات التي يعملون بها لم يوفروا لهم مكان للإقامة، كما أن غلاء أسعار تأجير المنازل أوغرف الفنادق إضطرهم للبقاء بهذا الحمام بالرغم من إفتقاده لضروريات الحياة كخيار وحيد يوفرون من خلاله ما يتقاضونه من راتب ضئيل لايكفيهم لتوفير حاجياتهم اليومية. ولا يقتصر الأمر على هذا الحمام بل أن بنات حواء وجدن من تحويل حماماتهن ليلا إلى إقامة للعاملات المتوافدات من الولايات البعيدة أو المطلقات وسيلة تسمح لهن بتحقيق المزيد من الربح بعد إنتهاء النشاط الصباحي، حيث تأكدنا من هذا الأمر بعدما توجهنا لإحدى الحمامات الشعبية وقد لاحظنا تواجد عدد كبير من النسوة اللواتي عجزن عن دفع مستحقات غرف الفنادق، فكان الحمام المأوى الوحيد لهن، حيث أكدت لنا إحدى المطلقات أنها لم تجد من خيار لمواجهة حالتها الإجتماعية الصعبة وغلاء أسعار الإيجار لحماية أطفالها من التشرد سوى تقاسم مساحة صغيرة من الحمام ليلا مع أطفالها لتواصل معاناتها بقضاء الفترة الصباحية معهم في الحدائق. الفنادق الشعبية مأوى العائلات والطلاب تقف أزمة السكن عائقا أمام الكثير من الشباب، حيث أصبح غلاء إيجار المنازل السبب الرئيسي في عزوف الكثير منهم عن الزواج، فقد علمنا من أصحاب الوكالات العقارية أن العثور على منزل للإيجار يتطلب من الزبون تقديم مقابل إلى أصحابه، إضافة إلى دفع مقدم سنتين إلى ملاك تلك المنازل وهو ما لايتوافق مع محدودية دخل العديد من العائلات فغالبا ما تكون الحمامات مكان مناسب للعزاب لا للأزواج الذين يبحثون عن مكان يتوافق مع وضعيتهم، حيث علمنا أن الكثير منهم يختارون الفنادق الرخيصة الثمن لتحميهم من التشرد، فقد علمنا من موظفي الإستقبال بالفندق الشعبي المتواجد بساحة الشهداء أن أغلب الزبائن هم من الأزواج أو الطلاب الأجانب، وعن ثمن الغرفة فقد أخبرنا أنه لا يتجاوز ال1000 دينار وهو ما جعل العديد من النزلاء يفضلونه عن الفنادق الأخرى الباهضة الثمن، هذا ما دفعنا لرصد أسباب تواجد بعض الأزواج بتلك الغرف، حيث إلتقينا بأحد الأزواج الجدد الذين علمنا منهم أن ظروفهم الصعبة إضطرتهم للإحتماء بجدران تلك الغرفة التي لا تتجاوز بضعة أمتار، فعمار، أكد لنا أن راتبه الضئيل الذي لايتوافق مع الأسعار المرتفعة للإيجار حيث لم يتمكن من توفير مكان مناسب لزوجته خاصة أن عائلته رفضت فكرة بقاء زوجته بمنزله، وقد إختار البقاء بتلك الغرفة بالرغم من إفتقادها لأدنى الضروريات، كما أضاف أن زوجته لا تجد راحتها بالغرفة خاصة أنها تفتقد لمكان خاص بالطبخ أو حتى وسائل للترفيه كجهاز تلفزيون، فهم يضطرون للإنتظار ساعات لدخول الحمام المشترك، في حين أكدت زوجته “منال” أن حياتها تحولت إلى جحيم كونها تعيش حياة غير مستقرة ملؤها المعاناة وقد تعمدت عدم إنجاب الأطفال خوفا من أن يعيشوا في عذاب الحياة بدون سكن خاص. إنتقلنا لغرفة أخرى كانت تتخللها الفوضى يعيش فيها طلاب وعمال يتقاسمون ثمن غرفة واحدة لمواجهة ظروفهم الصعبة، فجمال طالب سوري، لم يتمكن من الإستفادة من الإقامة الجامعية فقرر تقاسم ثمن الغرفة مع رفاقه بالرغم من إفتقادها لإحتياجاته الخاصة، فقد أخبرنا أنهم يضطرون لتناول وجباتهم بمحلات الأكلات السريعة ومشاهدة بعض البرامج بالمقاهي، كما أن بعضهم يضطر للنوم على الأرض نظرا لتوفر سريرين فقط. كما لا تختلف معاناة الأجانب من العمال الذين حاولوا تحدي ظروفهم الصعبة في الإقامة بأماكن تفتقد لأدنى متطلبات الحياة، لكنها تتوافق مع دخلهم اليومي، فسليمان هو أحد الأفارقة العاملين في تصليح الأحذية لم يجد من خيار سوى الإقامة بمراكز الشباب أو بالحمامات أحيانا، حيث أكد لنا أن الراتب الذي يجنيه بعمله كإسكافي لايتجاوز ال500 دينار مما جعله يعجز عن تأجير منزل أو غرفة بفندق أمام أسعارها الباهضة، كما أضاف أن خياره الوحيد كان الإحتماء بمركز الشباب ليلا بغرف صغيرة يتقاسمها برفقة أشخاص أخرين تفتقد للضروريات بغياب وسائل التدفئة.