دأبت منظمة التحرير والدول العربية المرتبطة بالغرب على تسمية النزاع مع الكيان الصهيوني الغاصب بالقضية الفلسطينية،وهي تسمية تنطوي على مؤامرة تهدف إلى نزع الصفة الحقيقية عن القضية من كونها قضية إسلامية،من أجل إفقارها من عنصر قوتها وإضعافها تمهيدا لتصفيتها على يد منظمة التحرير التي أنشئت،وتم إفرادها في ادارة الصراع مع اليهود لتحقيق هذا الغرض،لقد تقدم عباس بطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية الى الأممالمتحدة قبل أن تتحقق الدولة على الأرض او على الورق،ودون تقرير مصير اكثر من نصف الشعب الفلسطيني المهجر في الشتات،ودون حسم أمر القدس التي هي جوهر الصراع. وبغض النظر إن كان سيتم الاعتراف بدولة عباس أم لا،فإن الخطوة التي أقدم عليها في ضوء رياح التغيير التي تهب على البلاد العربية تبدو خطوة قد أعدت مسبقا بالاتفاق مع امريكا واسرائيل بهدف وضع حد لطموحات الشعوب العربية في استعادة فلسطين بعد ما أصبح شعار تحرير فلسطين واحدا من استحقاقات مرحلة ما بعد إسقاط الحكام الذين حرسوا اسرائيل وحافظوا على بقائها،فكان لابد من خطوة تقطع الطريق على الشعوب الثائرة من المطالبة بتحرير فلسطين ونصرة أهلها،فأسند هذا الدور الرخيص لأبي مازن ليقدم الطلب الذي حدد فيه سقف الحقوق الفلسطينية بدولة في حدود سنة 1967 وهو أقل مما وافقت عليه أمم المتحدة في قرار التقسيم رقم 181 سنة 1947،وبهذه الخطوة الخيانية من عباس بوصفه الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني يكون قد سد الطريق في وجه الأمة الاسلامية من نصرة فلسطين وأهلها في المستقبل،ويكون بصفته المسؤول عن ملف القضية الفلسطينية قد عصم الحكام العرب من تهمة الخيانة وبرأهم من جريمة التفريط بفلسطين والتخاذل عن واجب تحريرها،مما يدل على ان الأمر دبر بليل لذر الرماد في عيون الشعوب العربية بمنح الفلسطينيين انتصارا وهميا وانجازا صوريا للوقاية مما قد ينجم عن التغيير في المنطقة،لأن الانتفاضات العربية وإن كانت امريكا تتوسم منها اعادة انتاج الانظمة العربية بما يخلق شرقا أوسطيا جديدا خاليا من العداء للقيم الغربية،الا انها لا تستطيع ان تضمن نتائج حركة شعوب تتوقد فيها العقيدة الاسلامية كتوقد الجمر تحت الرماد،فقد تجري رياح التغيير بما لا تشتهي الدبلوماسية الأمريكية فينقلب السحر على الساحر،لذلك أرسل عباس إلى الأممالمتحدة ليدق المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية ويقضي على آمال الفلسطينيين بالعودة،مستنسخا خيانة ابن العلقمي ليحظى على وصف بيريز له بعد طلبه الاعتراف بالدولة الفلسطينية بأنه افضل رئيس فلسطيني بالنسبة لإسرائيل. وهنا قد يظن البعض بأن سعي امريكا واسرائيل لإفشال الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو دليل براءة لعباس من التآمر والخيانة،الا ان الحقيقة غير ذلك،لأن المهم بالنسبة لإسرائيل وامريكا هو تحديد سقف المطالب الفلسطينية وبلورة مستقبل القضية،وهو ما تم بالفعل،لأن اسرائيل ستحظى بموجب ما قدمه عباس على ما يقارب 80 بالمئة من فلسطين بطلب الفلسطينيين انفسهم،كما لا بد من الإشارة هنا إلى ان الادارة الامريكية ليست متفاهمة تماما مع حكومة نتنياهو،وهما يتبادلان الضغوط بأشكال مختلفة دون إظهار خلافاتهما للعلن. اما رياح التغيير الغربية العاتية التي هبت على البلاد العربية ويبدو في ظاهرها الرحمة انما يراد منها استئصال قيم الاسلام واحلال الثقافة الغربية مكانها بغلاف الحرية والديموقراطية،ومن خلال مشاريع لتكوين العقلية العربية لتتقبل القيم الغربية،وتتبنى سياسات الولاياتالمتحدة تحت غطاء مشاريع الشراكة الأمريكية الشرق اوسطية،التي تمكنت من تأهيل ما يزيد عن المئة وخمسين ألف شاب وفتاة في دورات بمصر وخارجها،والتي تدار مباشرة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية ويقع مكتبها الإقليمي في تونس التي اندلعت منها شرارة الانتفاضات العربية. من المؤسف ان غالبية الشعوب العربية تعتقد ان ما جرى في مصر والبلاد العربية هي ثورات،لأنه قد جرى مسخها فكريا وسياسيا لعقود طويلة،ولم تدرك ان الذي انجزه الشعب المصري هو انتفاضة قوية أدت الى خلع طاغية ما كان لينفك عن الحكم لولا اجتماع إرادة الشعب وتخلي السند الإقليمي والدولي عنه،والمشكلة ان الحيلة الامريكية قد انطلت على كثير من السياسيين والمفكرين العرب،فلم يتمكنوا من ربط ما يسمى بالربيع العربي بالمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد،فالولاياتالمتحدة التي هي صاحبة الكلمة والقرار في المنطقة،تعمل منذ ان انفردت بالموقف الدولي على اعادة صياغة منطقة الشرق الاوسط بما يركز نفوذها ويبعد شبح انعتاق المنطقة من سيطرتها،بعد ما اصبح الإسلام يتحرك في المجتمعات العربية ويهدد النظم الاستبدادية التي استهلكت واضحت عبءا على الغرب وخطرا يهدد مصالحه. لقد حاولت امريكا اقناع الحكام بإحداث اصلاحات ديموقراطية تمهيدا لإحالتهم الى التقاعد منذ قمة الزعماء العرب في تونس،غير انهم تشبثوا بالحكم وخططوا لتوريث ابنائهم ظنا منهم ان التصدي للاسلام هو كلمة المرور الى الحكم والبقاء فيه،خصوصا وانهم يقدمون انفسهم للغرب باعتبارهم العدو لدينهم وأمتهم،والحارس على مصالح الغرب وقيمه،ولم يدركوا بأن الغرب قد بات على قناعة ان كسر شوكة الاسلام لم تتحقق بالقمع والحديد والنار،بل اصبح البطش بالشعوب يغذي تطلعها للتحرر والانعتاق ويعزز ما يصفونه بالتطرف والأصولية،فقد حاولت الولاياتالمتحدة ان تفرض التحولات الفكرية والسياسية في الشرق الأوسط بقوة السلاح من خلال حربي افغانستان والعراق وبتجنيد اغلب دول العالم لمحاربة الاسلام والتضييق على المسلمين اينما وجدوا بذريعة مكافحة الارهاب دون جدوى،وكررت محاولتها عن طريق حربها بالوكالة في لبنان دون ان تجني سوى الفشل،والعداوة من المسلمين. وفوق ذلك فإن ثبات المجاهدين والمقاومين امام قسوة الآلة الحربية الصهيوأمريكية على كل الجبهات قد عزز ثقة الأمة بنفسها،كما جذر مفهوم المقاومة والجهاد في الأمة الاسلامية كسبيل ناجع لانتزاع الحقوق. لقد رصدت امريكا مواطن الخلل في سياساتها الى جانب مراقبتها للأخطار المحدقة بنفوذها في الشرق الأوسط،فقرر صناع القرار في الولاياتالمتحدة العدول عن استراتيجية تنفيذ السياسات الدولية بالقوة العسكرية مما استوجب تغيير الادارة الامريكية ذات الطابع العدائي والإتيان بإدارة قادرة على خلق مناخ دولي ملائم لسياسة القوة الناعمة كأسلوب لتحقيق اهدافها وهو ما تم تطبيقه في منطقة الشرق الأوسط في العملية التي تسمى بالربيع العربي. فقد بدلت امريكا استراتيجيتها من إسناد الحكام المستبدين إلى دعم تطلع الشعوب للحرية من اجل الالتفاف على إرادتهم ودرء خطرهم على نفوذها ومصالحها،فشرعت بإعادة انتاج الأنظمة على نحو تبدو فيه منبثقة من إرادة الشعوب ومعبرة عن آمالها،ولتعيد رسم صورتها في أعين المسلمين لتبدو المنقذ لهم من براثن الحكام السفاحين،ولتعمق احساس العجز في الأمة،ومن هنا تنبع خطورة الموقف،فقد قبلت الشعوب ان تكون الديموقراطية الغربية اساسا لمشروعها في التحرر والانعتاق بفعل التوجيه الاعلامي الخبيث فأخذت تستجلب الثقافة الغربية وتستعذبها باعتبارها العلاج من الظلم والاستبداد خصوصا بعدما نجحت الانتفاضة المصرية بدعم مباشر وعلني من امريكا وعملائها في المجلس العسكري باسقاط الطاغية مبارك. ان المنطقة تمر بمنعطف تاريخي ومرحلة دقيقة من مراحل تكوينها فهي في طور بلورة هويتها الفكرية والسياسية حيث تتجاذبها اتجاهات فكرية مختلفة واجندات سياسية وافدة،ومحاولات لقطع صلتها بتاريخها وحضارتها كي تتلاءم مع بيئة الشرق الاوسط الجديد الذي يتسع لكل شيئ الا للاسلام وحملة دعوته. وهذا ما يجب ان تعيه الامة وتضع هي اجندتها للنهوض بدل ان تستبضع من الغرب نظام حياتها. خاصة وان الامة الاسلامية تكتنز في موروثها الفكري والثقافي ما يمكنها من النهوض من كبوتها مهما تداعت عليها الخطوب وتعاقب على قيادتها العملاء،وهي قادرة بإذن الله ان تستعيد مكانتها التي ارتضاها لها الله بين الأمم،خير أمة اخرجت للناس.