حرب القرم هي حرب قامت بين روسيا والدولة العثمانية في 28 مارس عام 1853م، واستمرت حتى 1856م. ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854م التي كان قد أصابها الضعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد (1861م) مملكة إيطاليا. وكان أسبابها الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات، وانتهت حرب القرم في 30 مارس 1856م بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس هزيمة فادحة. القوى: 250,000 بريطاني 400,000 فرنسي 10,000 سرديني مقابل: 1,200,000 روسي كان القيصر الروسي نيقولا الأول متعصبا دينيا، ويدرك أن حركة التجديدات والإصلاحات داخل الدولة العثمانية سوف تنعكس بصورة أو بأخرى على الأطماع والنفوذ الروسي خاصة في منطقة البلقان، لأن تقوية الدولة العثمانية تعني ألا تصل روسيا إلى المياه الدافئة. ورأى نيقولا أن نجاح العثمانيين في توطيد علاقتهم ببريطانيا سياسة شريرة تتبعها الدولة العثمانية للإضرار بالمصالح الروسية، ولذا قرر أن يختم حياته بتأديب الدولة العثمانية، لكنه أدرك أن قيامه بهذا السلوك المعادي ضد العثمانيين لن يتم بدون موافقة بريطانيا، ولذا عقد القيصر لقاء مع السفير البريطاني في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وتناول اللقاء عرضا روسيا باقتسام الدولة العثمانية أو على الأقل تقليم أطرافها. أرادت بريطانيا أن تنصب مصيدة بعناية لإيقاع روسيا في حرب ضد الدولة العثمانية لاستغلال هذه الحرب في توجيه ضربة عنيفة لروسيا تدفعها للإرتداد خلف حدودها مرة أخرى، وتحجبها عن الظهور على مسرح السياسة الأوروبية ولذا أطلعت بريطانيا العثمانيين على حقيقة النوايا الروسية السرية. لم يستوعب نيقولا الأول المتعصب دينيا حقيقة أن تقف دولة مسيحية مثل بريطانيا مع العثمانيين ضد روسيا المسيحية، وكان تقديره للموقف أنه سيقاتل الدولة العثمانية بمفردها، وأنه سيحقق انتصارا سهلا عليها، يمكنه من انتزاع ولو بعضا من المكاسب كالتي حققتها روسيا في "معاهدة أونكيار سكلسي" التي وقعتها روسيا مع الدولة العثمانية في (21 صفر 1249 ه 8 يوليو 1833م)، ونصت على إغلاق المضايق التركية أمام جميع السفن الحربية، بينما سمحت للأسطول الروسي بدخول مضيق البوسفور للدفاع عن الأستانة، وبذلك تحررت روسيا من كثير من التهديدات البريطانية والفرنسية في البحر الأسود. ولم تغب فرنسا عما يجري حيث كانت تعتبر بريطانيا أكبر منافس استعماري لها في العالم، وتحالف لندن مع الدولة العثمانية دونها يعني تمكن بريطانيا من تحقيق كثير من الأطماع الاستعمارية في الدولة العثمانية على حساب المطامع الفرنسية ولذا قررت باريس أن تبني موقفها بالتحالف مع بريطانيا. وأدرك الفرنسيون أن دخول بريطانيا الحرب لمساندة العثمانيين يحتم على باريس أن تدخل هي الأخرى إلى تلك الحرب، حتى لاتستحوذ بريطانيا على الموقف الأقوى في السياسة العالمية. بدأت الحرب العثمانية الروسية في (4 شوال 1269ه 3 يوليو 1853م)، وكان مسرحها الأول في أوروبا بمنطقة البلقان، حيث قام حوالي 35 ألف جندي روسي باحتلال رومانيا التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية، وأبلغت روسيا الدول الأوروبية أنها لن تدخل في حرب شاملة ضد الدولة العثمانية، وأن مافعلته إجراء وقائي لحين اعتراف السلطان العثماني بحقوق الأرثوذكس في كنيسة القيامة في القدس، وأنها سوف تنسحب فور هذا الإعتراف. قامت الدولة العثمانية وروسيا بحشد قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا. وفي جبهة القوقاز ساند الزعيم الشيشاني الإمام شامل القوات العثمانية أثناء القتال ضد الروس. أرادت الدولة العثمانية دفع بريطانيا وفرنسا إلى دخول الحرب إلى جوارها، ودبرت إرسال مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أن هذه السفن لابد أن يهاجمهما الروس، وبالفعل هاجم الروس هذه السفن وتم إغراقها جميعا، واستشهد حوالي ألفي جندي عثماني، وأثارت هذه المعركة قلقا في الأوساط في لندن وباريس، وحذرت الصحافة في العاصمتين من الخطر الروسي. عرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن القيصر الروسي رفض ذلك، خاصة بعد انتصارات عمر باشا في رومانيا، وقال نيقولا الأول: "أشعر أن يد السلطان على خدي"، فبادر نابليون الثالث بالاتفاق مع بريطانيا ضد القيصر، وقبلت لندن العرض الفرنسي بحماسة شديدة، وغادر سفيرا لندن وباريس مدينة سانت بطرسبرغ الروسية في 8 جمادى الأولى 1270 ه 6 فبراير 1854 م، وتم عقد معاهدة إستانبول في 13 جمادى الآخرة 1270 ه 12 مارس 1854 م، بين الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، ونصت على ألا تعقد أي دولة من هذه الدول صلحا منفردا مع روسيا، وأن يتفاهم قواد الدول الثلاث في الحرب ضد روسيا، وأن تكون الوحدات الإنجليزية والفرنسية والسفن التابعة لهما في إستانبول خاضعة للقوانين العثمانية. أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على روسيا في 28 جمادى الآخرة 1270 ه 27 مارس 1854 م، ونشبت معارك ضخمة في عدة جبهات أثناء حرب القرم، إلا أن أهم هذه المعارك كانت معركة سيفاستوبول التي خاضتها الدول الثلاث للقضاء على القوة البحرية الروسية في البحر الأسود، حيث كان القاعدة البحرية لروسيا في شبه جزيرة القرم (حاليا في أوكرانيا) واستمرت المعركة قرابة العام، قُتل خلالها حوالي 35 ألف قتيل، وعدد من القواد الكبار من كلا الجانبين، حتى انتهى الأمر بسيطرة الدول الثلاث على الميناء في 22 من شعبان 1271ه 9 مايو 1855م. في هذه الأثناء توفي القيصر الروسي نيقولا الأول، وخلفه في الحكم ابنه ألكسندر الثاني الذي شعر بعدم قدرة بلاده على مواصلة الحرب، فقرر التفاوض للسلام، خاصة بعد المذكرة التي تقدمت بها النمسا لروسيا وحذرتها فيها من أن دولا أوروبية أخرى قد تدخل الحرب ضدها. استمرت الحرب أكثر من عامين ونصف، حاربت فيها الدولة العثمانية منفردة في السنة الأولى منها، وتميزت هذه الحرب بمتابعة الصحافة لها، من خلال إرسال مراسلين عسكريين على جبهات القتال. كان لمعاهدة باريس التي عقدتها الدولة العثمانية بعد حرب القرم التي استمرت حوالي 3 سنوات أهمية خاصة في التوازن على الساحة الدولية بين الدول الكبرى، فهي من المعاهدات التي صاغت الوجه السياسي لأوروبا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت مدخلا مهما لتطوير القانون الدولي حيث كانت بداية الفصل بين العقائد الدينية والعلاقات الخارجية، وانتقلت بالقانون الدولي من الحيز الأوروبي الذي كان يعبر في الأساس عن مجموعة من الأعراف غير الملزمة لغير الأوروبيين إلى إشراك الدولة العثمانية في هذا القانون الدولي. وتكمن أهمية هذه المعاهدة في أنها كشفت بجلاء أن المصالح هي التي تصنع الأحداث ومن ثم تصنع التاريخ، فالتحالفات لاتصاغ وفق العقائد الدينية بقدر ماتصاغ وفق المصالح التي تحققها تلك العقائد، ولذا كانت أطر التحالفات واسعة ومرنة وقابلة للتحرك مع تغير المصلحة، وتلك قصة طويلة دامية كشفتها بجلاء معاهدة باريس.