الكل وقف يتفرج على ما يحدث في السودان، البلدان العربية أغلبيتها لا تدري حجم المؤامرة التى تدبر في كواليس الغرب المتصهين للاستلاء على خيرات هذا البلد الإسلامي العريق، حتى جيرانه لم يكتفوا بالحياد حيال ما يحدث في أزمة دارفور، بل راحوا يتآمرون عليه في الخفاء محتقرين شعبه العظيم الذي ضرب أروع الأمثلة في تحديه للسياسة الأمريكية ومن ورائها أوروبا وحليفتها إسرائيل. كلفته إصدار مذكرة توقيف دولية في حق رئيسه عمر البشير بتهم باطلة، قيل إنها تتعلق بالإبادة، في حين تؤكد الوقائع بأن تدخل هؤلاء الغزاة في شؤون السودان وتشجيعه يلانفصال وتمركز مراكز التبشير المسيحي بالمنطقة التي خلقت أقلية مسيحية في المنطقة، هي من تسببت في مقتل سودانيين وليس النظام السوداني كما ادعت المحكمة الدولية التي تغاضت عن جرائم شارون في لبنان وفلسطين وجرائم الفرنسيين في رواندا، والحلف الإطلسي في أفغانستان والعراق، حيث أصبح جنود وقادة الغرب معفين من أي متابعة دولية بشأن جرائمهم ضد الشعوب العربية والإسلامية، وحتى الإفريقية. من أهم الأسباب التي تفسِّر عدم وجود تعاطف شعبي إسلامي كبير مع مشكلة السودان، هو جهل المسلمين بحقيقة الأوضاع داخل هذا البلد الإسلامي الكبير، خاصةً في منطقة دارفور، والتي برزت على الساحة فجأةً في السنوات القليلة السابقة. وقد دأب الإعلام الغربي والصهيوني على الحديث عن قضية دارفور من منظوره لتحقيق أهداف واضحة، يأتي في مقدّمتها فصل دارفور عن السودان وتكاسُل الإعلام الإسلامي عن القيام بدوره في هذه القضية لعدة سنوات؛ مما نتج عنه اضطراب وفقدان للتوازن في المنطقة. لا يستطيع أحد أن يفهم الأزمة السودانية دون فقه عميق لجذورها وأبعادها، وإن تشفير أسبابها لن يتأتى إلا بوجود قاعدة معلوماتية ضخمة تشرح أبعاد الموقف برمته. اهتمام الغرب والصهاينة بإقليم دارفور أكبر أقاليم السودان إقليم دارفور أحد أكبر الأقاليم في السودان، يقع في غربه، تبلغ مساحته أكثر من نصف مليون كيلو متر مربع، يقترب عدد سكانه من ستة ملايين إنسان، معظمهم من المسلمين السُّنَّة. عندهم توجُّه إسلامي واضح، حيث تزداد فيهم نسبة الحافظين لكتاب الله بشكل لافت للنظر، حتى وصل البعض إلى نسبة 50 % من السكان، وهو ما يعطي انطباعا عن الطبيعة الإسلامية لهذا الإقليم، وهو جعل اهتمام الغرب والصهاينة به أكثر وأعظم. في هذا الإطار، ظهرت في هذا الإقليم حركات تدعو للتمرد والانفصال عن الكيان الأم السودان مع بداية التسعينيات، ليتفاقم الوضع إلى حد أن أصبحت القضية مطروحة عالميًّا بوضع احتمالين بارزين وهما: هل ينبغي أن تنفصل دارفور عن السودان؟ أم أنّ بقاءَها كإقليم في داخل الدولة أمر حتمي؟ وبالرجوع إلى ملف دارفور، نجد أن احتمالات انفصال الإقليم عن السودان واردة وإن لم يتفاعل المسلمون مع القضية بشكل أكثر عملية وسرعة، فإن كابوس الانفصال سيصبح حقيقة، وعندها لن ينفع الندم... وما يجعل احتمالات الانفصال واردة هو: المساحة الضخمة لهذا الإقليم، والتي تؤهله أن يكون دولة مستقلة بإمكانيات قوية، حيث إنه ليس فقط أكبر من عشرات الدول في العالم، ولكنه أيضًا يمتلك البترول واليورانيوم. ولقد وصف المحللون الغربيون بأن دارفور يساوي مساحة فرنسا لترسيخ فكرة حصوله على الانفصال من البلد الأم، حيث يمتاز بحدوده المعقدة، من ناحيته الغربية مع تشاد بحدود طولها 600 كيلو متر، ومع ليبيا وإفريقيا الوسطى. ومن المعروف أن هذه المناطق الصحراوية والقبلية ليست مُحْكَمة الحدود كغيرها من الدول، وعليه فدخول الأفراد من وإلى دارفور سهل للغاية، وخاصةً أن هناك قبائلَ كثيرة ممن تعيش في الإقليم ترتبط بعَلاقات مصاهرة ونسب وعلاقات اقتصادية وسياسية مع القبائل في الدول المجاورة، وخاصةً تشاد، وهذا جعل الكثير من المشاكل السياسية التي تحدث في تشاد تكون مرجعيتها إلى دارفور والعكس، و هو ما يجعل الدول المجاورة ان تكون عنصرًا فاعلاً في مشكلة دارفور. طبيعة القبائل في الإقليم تثير الكثير من القلق بهذا الإقليم، الجميع مسلمون، إلا أن الأصول الإثنيّة تختلف، فحوالي 80 % من السكان ينتمون إلى القبائل الإفريقية غير العربية، وهؤلاء يعملون في المعظم في الزراعة. أما بقية السكان، فمن القبائل العربية التي هاجرت في القرن الماضي إلى منطقة دارفور، وهؤلاء يعملون في الرعي. وهذه الخلفيات العِرقيّة لها تأثير في الاختلاف بين الطائفتين، لقد حدثت خلافات قبل ذلك بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج. وما لم يُؤخذ الأمر بجديّة، فإن الخلافات قد تتعقد جدًّا. ويزيد من تعقيد الموضوع في دارفور، مشكلة التصحُّر وقلةُ المراعي؛ مما يدفع القبائل الكثيرة إلى التصارع على موارد الماء ومناطق الزراعة، وهو صراع من أجل الحياة، يصبح إزهاقُ الأرواح فيه أمرًا طبيعيًّا. إن البُعد التاريخي لمنطقة دارفور يجعل مسألةَ انفصالها أمرًا خطيرًا يحتاج إلى حذر وحرص؛ فالمنطقة في معظم تاريخها كانت بالفعل مستقلة عن السودان، وكانت في واقع الأمر سلطنة مسلمة تضم عددًا كبيرًا من القبائل الإفريقية، وآخر سلاطينها هو السلطان المسلم الوَرِع عليّ بن دينار، الذي حكم من سنة 1898 إلى سنة 1917م، والذي كان يرسل كسوة الكعبة إلى مكة على مدار عشرين سنة كاملةً وكان يُطعِم الحجيج بكثافة، لدرجة أنه أقام مكانًا لتزويد الحجاج بالطعام عند ميقات أهل المدينة المعروف بذي الحُلَيفة. وقد وقف هذا السلطان المسلم مع الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى من منطلق إسلامي، وهو أزعج السلطات الإنجليزية التي كانت تسيطر على السودان آنذاك، فقامت بضم هذا الإقليم إلى السودان في سنة 1917م، ومن يومها وهو جزء من السودان، وهذه الخلفية التاريخية تشير إلى نفسيّة السكان الذين إذا لم يشعروا بالأمان والاطمئنان لحكومة السودان، فإنهم سيرغبون في العودة إلى ما كانوا عليه منذ مئات السنين. التدخل الغربي الصهيوني وراء طلب الانفصال فرنسا في مقدمة الدول المهتمَّة بإقليم دارفور بخلفيات تاريخية مبيتة التدخل الغربي الصهيوني الكثيف في المنطقة غيِّر الكثير من الحسابات، ودفع بقوة إلى فكرة الانفصال، وذلك لتحقيق مصالح استراتيجية خطيرة، وقد أصبح هؤلاء يتعاملون بمنتهى الوضوح مع قادة التمرد في دارفور؛ لكي يدفعوهم إلى الانفصال لتقوم دولة تدين بالولاء إلى الكيانات الغربية والصهيونية الموالية. وتأتي في مقدمة الدول المهتمَّة بإقليم دارفور، فرنسا، حيث تمثِّل هذه المنطقة تاريخًا مهمًّا جدًّا لفرنسا؛ لأن دارفور هي أقصى شرق الحزام المعروف بالحزام الفرانكفوني المنسوب إلى فرنسا، وهي الدول التي كانت تسيطر عليها فرنسا قديمًا في هذه المنطقة، وهي دارفور وتشاد والنيجر وإفريقيا الوسطى والكاميرون، وقد استطاعت فرنسا الوصول إلى شخصية من قبيلة الفور، وهي أكبر القبائل الإفريقية في دارفور، وإليها ينسب الإقليم (دارفور)، وهذه الشخصية هي عبد الواحد محمد نور صاحب التوجُّهات العلمانية الفرنسية الواضحة، ومؤسِّس أكبر جماعات التمرد في دارفور، والمعروفة باسم جيش تحرير السودان، وهي حركة مختلفة عن الجيش الشعبي لتحرير السودان، والمتمركزة في جنوب السودان. وإن كانت الأيدلوجية الفكرية للحركتين متشابهة، إلا أن هناك تنسيقا واضحا بينهما. إنجلترا دخلت هي كذلك اللعبة في المنطقة عن طريق خليل إبراهيم، الذي أنشأ حركة تمرد أخرى تنتمي إلى قبيلة أخرى من القبائل الإفريقية، وهي قبيلة الزغاوة، حيث قام مدعومًا ببريطانيا بإنشاء حركة العدل والمساواة، وهي كذلك حركة علمانية تطالب بفصل دارفور عن السودان. الحكومة الصهيونية رصدت 5 ملايين دولار لمساعدة لاجئي دارفور جمعية "لارش دي زو" الفرنسية خطفت أطفال دارفور لبيعهم لعائلات إنجليزية وفرنسية وإضافة إلى فرنساوإنجلترا، فهناك أمريكا صاحبة الأطماع المستمرة. ليس في دارفور فقط، ولا في السودان فحسب، بل ليس في القرن الإفريقي وحده، وإنما في العالم أجمع، فهي تدفع بقوة في اتجاه وجود قوات دُوليّة لحفظ السلام في المنطقة تكون تحت السيطرة المباشرة لمجلس الأمن، ومِن ثَم لأمريكا. وأخيرًا، تأتي دولة الكيان الصهيوني إسرائيل لتشارك بقوَّة وصراحة ووضوح في مسألة دارفور، وليس فقط عن طريق تحالف جماعات الضغط الصهيونية في أمريكا والمعروف بتحالف "أنقذوا دارفور"، ولكن أيضًا عن طريق التدخل السافر للحكومة الصهيونية نفسها، حيث رصدت الحكومة الصهيونية مبلغ 5 ملايين دولار لمساعدة لاجئي دارفور، وفتحت الباب أمام الجمعيات الخيرية في إسرائيل للمشاركة. كما أعلنت عن استعدادها لشراء أدوية ومعدات لتحليل المياه بما يعادل 800 ألف دولار، يتم جمعها من بعض الشركات الصهيونية، كما سبق أن أعلنت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية اليهودية في اجتماع لها مع بعض السفراء الأفارقة في تل أبيب سنة 2008، أن حكومتها ستسعى لإيجاد حل لأزمة دارفور. الحديث عن التدخل الأجنبي في المنطقة، لا يقتصر على هذه الدول، بل يصل إلى حد مشاركة عشرات الجمعيات الإغاثية التي تمارس خليطًا من الأعمال الإغاثية من جانب، والتبشيرية التنصيرية من جانب آخر، والإجرامية من جانب ثالث، وليس ببعيد ما فعلته جمعية "لارش دي زو" الفرنسية من خطف أطفال من دارفور لبيعهم لعائلات إنجليزية وفرنسية، لفضيحة تم اكتشافها في أكتوبر 2007... وما خفي كان أعظم! تردي الأوضاع في دارفور وضعف سيطرة الجيش السوداني عصابات "الجانجويد" عصابات تركب الخيول، تقتل وتسرق وتفرض ما تريد الضعف العسكري للحكومة السودانية، بجيش لا يزيد على 90 ألف جندي، بإمكانيات عسكرية متواضعة، خاصةً بعد مروره بحرب جنوب السودان على مدار عشرين عاما كاملة، أرهقت هذا الجيش بصورة كبيرة الذي وجد نفسه وحيدا بدون مساعدة باقي الدول الشقيقة والمجاورة، خاصة العربية منها والمسلمة. الجيش لا يستطيع أن يسيطر على المساحات الشاسعة الموجودة بالسودان بصفة عامة، وفي دارفور بصفة خاصة؛ وهذا ما أدى إلى ظهور عصابات "الجانجويد"، وهي عصابات من قبائل عربية تركب الخيول وتلبس الملابس البيضاء وتحمل الرشاشات، وتتجول بِحُرِّية في ربوع دارفور، تقتل وتسرق وتفرض ما تريد، ويتَّهِم الغرب الحكومة السودانية بالتعاون مع عصابات الجانجويد، وتنفي الحكومة السودانية ذلك. إن عدم وجود دراسات علمية موثَّقة، تشرح طبيعة المنطقة، وتشعباتها الجغرافية والتاريخية والسكانية، وطرق التعامل مع القبائل المختلفة ومناهج تفكيرهم ومنطلقاتهم، ومِن ثَم فإن الذي يسعى لحلّ المشكلة ولجمع الأطراف، لا يستطيع غالبًا أن يدخل من الباب الصحيح، وقد يفشل في الحل حتى لو كان مخلصًا متجردًا، حيث لا يملك آليات الحل السليم، ولا المعلومات الدقيقة. هذه الأحداث المركَّبة تفاقمت منذ أكثر من عشر سنوات، ولا يجب أن يترك السودان بمفرده في هذه الأزمة لقطع الطريق أمام انفصال دارفور. مشكلة دارفور واحدة من أكبر المشاكل المطروحة على الساحة الدولية في الوقت الراهن في البداية، عندما سمعنا عن الأزمة وحاولنا فهمها، حيث هناك طرف خفي. فإذا سلمنا أنها أزمة غير مصطنعة أزمة قبلية بين مجموعة من الأعراق التي اعتادت على هذا النوع من الصراعات في مثل هذه المناطق وتوجد مئات الصراعات المشابهة في إفريقيا، بل والأكثر دموية كما حدث في رواندا مثلا. وعندما أطل علينا الطفل السوداني المدلل من الحكومات الأوربية، وهو رأس الفتنة في الأصل، أعلن تشكيل مكتب لتمثيل حركته المزعومة في إسرائيل، بدأت الرؤية في الكثير من المراقبين، فكما يدعي عبد الواحد، إسرائيل استقبلت الكثير من اللاجئين الفارين من دارفور. وبهذا الشأن، إسرائيل لن تضيع فرصة وجود فرع إفريقي لها في السودان، بل التأثير اليهودي في إضفاء الصبغة الدولية على الأزمة ومحاولة إدخال قوات أجنبية إلى السودان، ولم لا إعلان دارفور منطقة حكم ذاتي وإعطائها نفس الحقوق التي أهديت للجنوب.. وتستمر القصة في التكرار، أي شخص ينفصل يتصل على اأقرب سفارة إسرائيلية. وما يلاحظ هو صغر حجم الدور المصري، وهي الجار المباشر للسودان، فمصر دورها في إفريقيا عموما لا يمثل الثقل السياسي المصري في القارة، على عكس الدور الليبي مثلا، فهي ضالعة في مختلف القضايا الإفريقية، والرئيس الليبي يستقبل استقبال الفاتحين عند زيارة الكثير من هذه الدول، وحقيقة أن الدور المصري بصفة عامة أصبح محدودا في السياسة الدولية. قصة مذكرة اعتقال الرئيس عمر البشير دول غربية خططت بالتعاون مع المحكمة الجنائية بخطف الوزير السوداني أحمد هارون من على متن طائرة إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية قرار اعتقال البشير، هي قضية جانبية أو فرعية في خضم الصراعات المستعرة في الشرق الأوسط، بل هي على جميع الإستراتيجية في صراع المحاور الدائر في هذه المنطقة والتي قدرها أن تتجمع فيها خيوط الصراعات العالمية. أولى هذه المستويات هي النظر إلى طبيعة المحكمة الدولية التى أنشئت في عام 1998 على خلفية الفظائع التي ارتكبت في يوغسلافيا ورواندا، ووقف حيالها المجتمع الدولي حائرا وعاجزا. وقد تم إنشاء محكمتين خاصتين دوليتين لكل من تلك القضايا، ولكن الرأي اتجه بعد ذلك لإنشاء محكمة دائمة تكون الملجأ الأخير لضحايا الفظائع والجرائم الكبرى ممن لا يجدون الإنصاف في بلدانهم. وهناك افتراض أساسي تقوم عليه فكرة المحكمة الجنائية الدولية، وهو أن عالم ما بعد الحرب الباردة أصبح ساحة انسجام وتوافق دولي وإجماع على القيم والإجراءات التي تحكم علاقات الدول. والمحكمة بحسب هذا الفهم تعكس هذه الإرادة الدولية المنسجمة مع نفسها والقيم المتوافق عليها. وهي بحكم وقوعها تحت سلطة مجلس الأمن مع كونها مرفوضة من غالبية أعضائه الدائمين، أداة في يد دول المجلس، بحيث لن تحال إليها أبدا قضايا لا ترضى عنها هذه الدول، أي أن هذه المحكمة الدولية هي نتاج غربي وهي تعبير عن ثقافته وأداة من أدواته يطبق بواسطتها وبأدوات أخرى على كل من يخالف توجهاته وأهدافه وإستراتيجياته في دول العالم المختلفة. ثاني هذه المستويات، إن تتبع إجراءات المحكمة الدولية ضد السودان يجد فيها فعلا مبرمجا ومخططا، فمنذ خمس سنوات، وبالتحديد في عام 2004 وحين كانت الحرب في دارفور تأخذ شكلا درامتيكيا في وسائل الإعلام، صرح جون دانفورث مندوب واشنطن لدى الأممالمتحدة في ذلك التوقيت بأن المسؤولية عن كارثة دارفور تقع بحق على عاتق حكومة السودان.. حان الوقت لبدء العد التنازلي لحكومة السودان، مع العلم أن هذا التصريح أطلقه عقب صدور قرار مجلس الأمن الذي تُبُني بغالبية 13 صوتا وامتناع دولتين عن التصويت. هذا القرار الذي قدمته الولاياتالمتحدة وبريطانيا آنذاك، كان يمهل الحكومة السودانية مدة 30 يوما لتسوية أزمة دارفور، وإلا واجهت عقوبات دولية في حال عدم الوفاء بالتزاماتها خلال المهلة الزمنية المذكورة. وقبل ذلك التوقيت بعدة أشهر، أصدرت منظمة هيومان رايتس واتش الأمريكية تقريرا مؤلفا من سبعة وسبعين صفحة بعنوان "دارفور قد دُمرت.."، التطهير العرقي من قِبَل قوات الحكومة والميليشيات في غربي السودان والذي ملخصه أن الحكومة السودانية تتحمّل المسؤولية عن التطهير العرقي وعن الجرائم ضد الإنسانية، على حد زعم التقرير في منطقة دارفور جنوبي السودان. وعلى إثر ذلك، قام كولن باول وزير الخارجية الأمريكي حينذاك، بزيارة السودان وبلغ الرئيس البشير رسالة واضحة من الرئيس بوش مفادها كما أعلنها بأول على لسانه أن على السودان اتخاذ خطوات حاسمة لحل الأزمة في دارفور وبشكل محدد. ولكن الغرق الأمريكي في المستنقع العراقي في تلك الأثناء، كان قد بدأ في التفاقم، مما جعل كثيرا من القضايا الحيوية بالنسبة للإدارة الأمريكية تتراجع. ومنذ عامين بالضبط، طالب لويس أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، باعتقال الوزير السوداني أحمد هارون بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية على خلفية أحداث درفور، فلما رفض السودان تسليم الوزير اعترف أوكامبو بأن المحكمة خططت بالتعاون مع دول لم يحددها لخطف هارون من على متن طائرة كان سيستقلها، ثم طالب أوكامبو في العام الماضي باعتقال الرئيس السوداني بالتهم ذاتها وسئل في حينه عن السبب في أنه لا يحقق مثلا في جرائم الإبادة الجماعية في العراق وفلسطين، فأجاب بأن تلك المناطق لا تقع في نطاق صلاحياتي القانونية. كما إن القرار رقم 1593 الخاص بتحويل قضية دارفور من مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية، هو قرار سياسي اتخذه هذا المجلس الخاضع في النهاية للإرادة الأمريكية، سواء بالتحالف المباشر مثل فرنسا وبريطانيا، أو باستخدام أوراق الضغط كما في حالة دولتي روسيا والصين. العقلية الأمريكة مبنية على السطو على خيرات الدول منذ ولادة ما يعرف بأمريكا، يتوالى على الضمير الجماعي الأمريكي عدة عناصر تتداخل فيما بينها، ليظهر في النهاية ما يعرف بالخصائص العامة للشعب الأمريكي، وهي الخصائص التي تتبلور في عدة أهداف عادة ما تندفع وراء تحقيقها السياسة الأمريكية، ومن ورائها الطبقة السياسية التي يجري بينها تداول السلطة هناك داخل لعبة الديمقراطية، ويصطلح كثير من المفكرين والمتخصصين في الشأن الأمريكي على أن هناك ما يعرف بثلاثية: الثروة والدين والقوة. وهذه الثلاثية، هي التي يجري على أساسها تفسير أي سلوك اجتماعي وما يتفرع عنه من سلوك سياسي تسير وفقه السياسة الأمريكية. فالثروة التي تكمن في السودان ودارفور تحاذي بحيرة النفط الممتدة من إقليم بحر الغزال مرورا بتشاد والكاميرون، هي من الأسباب التي جعلت أمريكا تهتم بتلك المنطقة، ناهيك عن حفرة النحاس المتاخمة التي يقال إنها غنية بالمعادن، لا سيما اليورانيوم. وإلى هذا، تشير صحيفة الجارديان البريطانية، حيث تقول إن النفط سيكون القوة الدافعة الرئيسية في أي غزو عسكري خارجي للسودان، وخلصت إلى أن التدخل العسكري المحتمل في السودان سيوفر خزان نفط ضخما وغير مستغل في جنوبإقليم دارفور وجنوب السودان، لاسيما أن هناك دافعا آخر يبدو بارزا وهو أن امتياز استخراج النفط في جنوب دارفور تتمتع به الشركة القومية الصينية للبترول: باعتبار أن الصين هي أكبر المستثمرين في النفط السوداني. والاهتمام الأمريكي بنفط السودانو لا يعود فقط إلى أن اكتشافه تم على يد شركة شيفرون الأمريكية التي أنفقت ما يفوق مليار دولار على نشاطها هناك قبل خروجها في عام 1992م، وأن كل النفط السوداني الذي تستمتع به الشركات الصينية والماليزية والهندية يأتي من حقول اكتشفتها شيفرون، وإنما يعود كذلك إلى إمكانية نقل النفط السوداني عبر تشاد الذي يتم نقله حاليا عبر خط طوله 1610 كلم إلى ميناء بشائر على البحر الأحمر. ويقدر احتياطي السودان من النفط بحوالي 2 مليار برميل من المتوقع زيادتها إلى 4 مليارات برميل عام 2010م، كل هذا يجعل شهية الولاياتالمتحدة مفتوحة لالتهام هذا المنجم المفتوح. أما البعد الديني في مشكلة دارفور، وهو عامل متجذر في السياسة الأمريكية، فيظهر جليا في التهافت التنصيري على دارفور، وهو اندفاع علني ولا يمكن لأي باحث سياسي تجاهله. وقد حذر المهندس الحاج عطا المنان، والي جنوب دارفور، من وجود بوادر حملة تنصيرية بدارفور وكشف لدى لقائه وفد الحكومة الزائر لولايته، عن قيام عدد من رجال الدين المسيحي بتوزيع كتب التنصير على المواطنين في محاولة لتنصيرهم وإبعادهم عن الدين الإسلامي. وقال عطا المنان: إن الخطر الحقيقي ليس في التدخل الخارجي بالسلاح، ولكن في تنصير مواطني دارفور الذين عُرفوا بحبهم للقرآن وكتابتهم للمصحف الشريف. في هذا الإطار، كشف وزير الداخلية السوداني عن أن عدد المنظمات التنصيرية الأوروبية والأمريكية العاملة في دارفور يبلغ أكثر من 30 منظمة تقوم بأدوار في غاية الخطورة، وتستغل العمل الإغاثي في عمليات التنصير في دارفور التي يعتبر غالبية سكانها مسلمين ولا يوجد بها كنيسة واحدة، وكانت قمة التدخل التنصيري في أثناء اجتماع الأساقفة الإنجيليين بالمركز الكنسي التابع للأمم المتحدة بنيويورك في شهر أفريل الماضي، حيث دعا رئيس الشمَّاسين كل بروتستانتي إلى تقديم يد العون لسكان دارفور والمشردين منها وأرسل بابا الفاتيكان مبعوثا شخصيا له، وهو رئيس الأساقفة الألماني بول كوردز إلى السودان أواخر شهر جويلية 2004م للضغط على الحكومة السودانية لتسرع في إدخال المنظمات الكاثوليكية وتقدم لها التسهيلات. والأهم من هذا، هو السماح للفاتيكان بتقديم تضامنه الروحي للمنكوبين، أي التنصير. ومن بين المنظمات التنصيرية التي كرست جهودها مؤخرا في دارفور: منظمة ميرسي كوربس الأمريكية الإنجيلية التي قضت 25 عاما بالتنصير في جنوب السودان، ويبدو أن ثمة تعاون وثيق بين نصارى الجنوب وبين المنظمات التنصيرية، فقد أرسل رئيس الأساقفة الإنجيليين بالسودان يوسف مارونا إلى نظرائه في مناطق مختلفة في العالم، يحثهم فيها على التدخل في دارفور.