بقلم: خورشيد دلي تتأثر السياسات الخارجية للدول وبالتالي خياراتها السياسية بجملة التطورات الإقليمية والدولية الجارية، ولعل درجة التأثر لها علاقة بالموقع الجغرافي للدولة، وبمدى انخراط هذه الدولة في الأحداث الجارية وعلاقة ما سبق بالأمن الداخلي للبلاد، وهي عوامل تشكل من بين أمور أخرى محددات مهمة في السياسة الخارجية لأي دولة. وانطلاقا من هذا التصور فإن تركيا تبدو الدولة الأكثر تأثرا بالأزمة السورية، نظرا للحدود الجغرافية الطويلة بين البلدين (قرابة تسعمائة كيلو متر) وللتداخل الاجتماعي والعرقي والطائفي على طرفي الحدود، فضلا عن أن تفاقم الأزمة أوصل العلاقة بين الدولتين إلى مرحلة القطيعة والصدام، كل ذلك ضمن واقع إقليمي تتحكم فيه صراعات قديمة مدفوعة بعوامل طائفية وأخرى لها علاقة بالتنافس الإقليمي في إطار التطلع إلى الدور والنفوذ والقدرة على رسم السياسات. تركيا ومسار الأزمة المتابع للسياسة التركية تجاه الأزمة السورية لا بد أن يرى أن مسار هذه الأزمة سار خلافا لتوقعات السياسة التركية حتى الآن، إذ إن التقديرات التركية كانت تقوم على أن قضية إسقاط النظام السوري قضية أكيدة، وأنها مسألة وقت لا أكثر، وأن هذا الوقت لن يطول، وانطلقت هذه التقديرات من تجربة ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن. وعليه انخرطت بقوة في الأزمة السورية ودعمت المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري وتحركت خلال الفترة الماضية إقليميا ودوليا من أجل إقامة منطقة أمنية وعزل للنظام السوري على أمل أن تكون الدولة الإقليمية الأكثر استفادة من سقوط هذا النظام، لكن الذي جرى أن الأزمة السورية تحولت مع الأيام إلى أزمة إقليمية ودولية متداخلة الأبعاد. ولعل السبب الأساسي لذلك يعود إلى الموقع الجغرافي لسوريا وتضارب الإستراتيجيات الدولية في هذه المنطقة الحساسة من العالم حيث إسرائيل، فضلا عن طبيعة التحالفات التي أقامها النظام السوري خلال العقود الماضية في ظل دعم روسي وإيراني غير مسبوق له. وبسبب كل ذلك فإن السياسة التركية تجاه الأزمة السورية بدت وكأن تقديراتها لم تكن دقيقة، ومع الزمن باتت في امتحان مع نفسها ومصداقيتها الأخلاقية، وعلى الأرض بدت وكأنها في حالة استنزاف، خاصة في ظل التداعيات التي انعكست على الأمن القومي التركي بعد أن تحوّلت الحدود التركية- السورية إلى ما يشبه الحدود الباكستانية-الأفغانية، لا سيما بعد حوادث وتفجيرات أمنية شهدتها المناطق التركية المحاذية للحدود السورية، حيث بتنا نسمع تهديدات مباشرة من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام لتركيا وسط حالة احتراب بين التنظيم ومقاتلي الجيش السوري الحر بالمناطق الشمالية من البلاد. وهذا ما دفع الأوساط التركية -ولا سيما المعارضة- إلى استثمار هذه التداعيات ضد حكومة رجب طيب أردوغان والتحذير من خطر انتقال الجماعات المسلحة المتشددة إلى الداخل التركي، خاصة في ظل مطالبة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بالسيطرة على المعابر الحدودية بين البلدين. لعل ما عمق من تحديات السياسة التركية تجاه الأزمة السورية أن مجمل التداعيات السابقة تزامنت مع تطورات إقليمية ودولية، من أبرزها: 1- التوافق الأميركي الروسي على حل الأزمة السورية سياسيا ودبلوماسيا عقب الاتفاق على إزالة الأسلحة الكيميائية السورية، وكان هذا التوافق بمثابة خيبة تركية من السياسة الأميركية التي تراجعت عن خيار الضربة العسكرية، إذ بدا الأمر لتركيا والعديد من الدول الأخرى وكأنه تخلٍ أميركي عن مسألة إسقاط النظام السوري. 2- شكّل إسقاط نظام الرئيس محمد مرسي في مصر -الذي كان حليفا قويا لتركيا- ضربة قاتلة للمشروع الإقليمي التركي بعد أن اعتقدت تركيا أن العلاقة بين الجانبين ستفتح آفاقا واسعة أمام السياسة التركية في العالم العربي وأفريقيا، وقد كان من التداعيات السلبية لما جرى في مصر على السياسة التركية بروز خلافات تركية-خليجية (باستثناء قطر) على خلفية اختلاف الموقف مما جرى في مصر. 3- التقارب الأميركي الإيراني عقب اتفاق جنيف النووي، إذ إن هذا الاتفاق أعطى الدبلوماسية الإيرانية آفاقا جديدة للعلاقة بالولايات المتحدة التي تشهد علاقاتها مع تركيا حالات من الفتور والتوتر غير المعلن، رغم أن تركيا تاريخيا هي حليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث التنافس بينها وبين إسرائيل وإيران على امتلاك عناصر جديدة من القوة والقدرة على التحرك لرسم المعالم الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط. هل من استدارة؟ التحولات الإقليمية والدولية السابقة، وما أفرزته التطورات الميدانية على الأرض من تداعيات، خاصة بروز خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام كتنظيم عابر للحدود وإعلان أكراد سوريا عن إقامة إدارة ذاتية في المناطق الحدودية السورية المجاورة لتركيا، والحديث عن إمكانية إقامة إقليم كردي (غرب كردستان) على غرار ما جرى في كردستان العراق، كل ذلك عمّق من تحديات السياسة التركية إزاء الأزمة السورية التي بدت وكأنها أزمة بلا أفق. وانطلاقا من هذه النقطة برزت أهمية الانفتاح مجددا على دول الجوار -ولا سيما العراقوإيران- بعد أن تضررت علاقتها بالدولتين على خلفية الاصطفاف الإقليمي الذي حصل على وقع الأزمة السورية. وقد شكلت الزيارة -التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى طهران والحديث عن مرحلة جديدة من التعاون في مجال مكافحة الإرهاب والبحث عن شراكة اقتصادية بين البلدين- مدخلا قويا لتدوير الزوايا بين الجانبين في ظل تناقض الموقف من الأزمة السورية. وبالنظر إلى الزيارات المتبادلة، فإن العلاقات الإيرانية التركية تبدو أمام مرحلة جديدة ربما ستكون لها انعكاسات على سياسة تركيا تجاه كل من العراقوسوريا نظرا لتأثير إيران على الدولتين. وعلى غرار العلاقة بإيران، جرت زيارات متبادلة بين مسؤولين أتراك وعراقيين بعد أن وصلت العلاقة بين الجانبين إلى مرحلة من التوتر واستدعاء السفراء وتبادل الاتهامات بالطائفية على خلفية قضية طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي، ومن ثم زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى كركوك دون تنسيق مع بغداد، والخلافات بين الجانبين على مد خط أنابيب لتصدير النفط بشكل مباشر من إقليم كردستان العراق إلى تركيا رغم اعتراض بغداد. ومع أن الأمر بقي في إطار الحديث عن فتح صفحة جديدة بين البلدين ولم يثمر عن شيء فعلي وملموس حتى الآن، فإن أجواء التوتر اختفت لصالح نوع من الموازنة والتوازن في السياسات والمصالح والبحث عن الفرص الاقتصادية والحد من المخاطر، وتوطيد العلاقات وإعادة بناء الجسور السياسية التي كادت أن تنقطع بفعل الأزمة السورية. خيارات تركيا في محاولة لفهم أبعاد التحرك التركي لتحسين العلاقة مع طهران وبغداد، ثمة من يرى أنه يشكل استدارة إقليمية في السياسة التركية بعد أن انقلبت هذه السياسة خلال الفترة الماضية على سياسة (صفر المشكلات). ويرى هؤلاء أن هذه الاستدارة أو الانعطافة ستنسحب أيضا على الأزمة السورية في المرحلة المقبلة من بوابة محاربة الإرهاب في ظل المعطيات التي تشير إلى أن الغرب غير جاد بإسقاط النظام السوري، وأن مسار الأزمة السورية وصل إلى مرحلة تدمير سوريا وتفكيكها في ظل عجز دولي، ولعل هذا ما يقف وراء الحديث التركي في طهران عن الحل السياسي والتعاون بمجال محاربة الإرهاب كمحاولة لتهدئة الصراع الدائر (بالوكالة) على الأراضي السورية. ويرى قسم آخر أن سياسية تدوير الزوايا والاتجاهات بفعل التطورات الإقليمية والدولية، وموازنة تركيا لمصالحها من خلال تحسين علاقتها مع دول الجوار، والعمل على الحد من مخاطر الانقسام الطائفي في المنطقة، كل ذلك لا يعني تغير الموقف من الأزمة السورية ومسألة إسقاط النظام السوري، خاصة أن العلاقة بين الجانبين وصلت إلى مرحلة القطيعة والصدام. في الواقع، من الواضح أنه لا يمكن النظر إلى السياسة الخارجية التركية ومحاولة فهم خياراتها إزاء الأزمة السورية دون إدراك حساسية موقع تركيا الجغرافي الفريد، وما يترتب على هذا الموقع من استحقاقات خارجية وداخلية تؤثر جميعها في تحديد بوصلة السياسة التركية من هذه الأزمة. وينطلق الموقف السياسي والإيديولوجي لحكومة حزب العدالة والتنمية من حسابات سياسية بعدم إمكانية الحل السياسي مع النظام السوري، وهو في العمق يرى أن سياسة تدوير الزوايا والاتجاهات ليست سوى مرحلة مؤقتة فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية. بمعنى آخر، تعتقد تركيا بصحة المراهنة على عامل الزمن في مسألة إسقاط النظام السوري، سواء في دفع الخيار العسكري مجددا إلى الطاولة انطلاقا من القناعة بأن مفاوضات جنيف لن تسفر عن حل سياسي، أو حتى إسقاط النظام بفعل عوامل داخلية من خلال تغير موازين القوى على الأرض.