في 12 جوان الماضي أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»إلى رئيس الوزراء التركي «رجب طيب أردوغان» بمذكرة تهنئة بمناسبة إعادة انتخابه قال له فيها " ستكون حكومتي سعيدة بالعمل مع الحكومة التركية الجديدة لإيجاد حلول لجميع المسائل العالقة بين بلدينا، آملين معاودة تعاوننا معاً واستعادة روح الصداقة التي ميزت العلاقات القائمة بين شعبينا على امتداد أجيال".. في الثاني من سبتمبر تقوم جريدة نيويورك تايمز الأمريكية بتسريب جزء مهم من تقرير الأممالمتحدة حول حيثيات الهجوم الإسرائيلي على السفينة «مرمرة» وفي التفاصيل إدانة صريحة للعدو الصهيوني على ذلك الحادث المؤلم ..وفي مساء ذات اليوم يطل وزير الخارجية التركي داود أغلو ويعلنها صراحة..سيغادر السفير الإسرائيلي أنقرة وسينخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى مستوى السكرتارية، وستراجع كل الاتفاقات مع إسرائيل ..هل انتهى شهر العسل بين الباب العالي وتل أبيب..؟ بعد عقود من الإيجابية ثمة أزمة متعددة الجوانب ومركبة الأبعاد تخيم بظلالها على العلاقات التركية الإسرائيلية, وهي أزمة مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر نظرا لاتساع حجم الخلافات بين الجانبين وسط ظروف تسير في غير صالح هذه العلاقة. بداية, ينبغي التذكير هنا بأن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في عام 1949 من ثم انتهجت سياسة موالية للغرب وإسرائيل منذ أن انضمت إلى الحلف الأطلسي عام 1952 لتتطور بعد ذلك العلاقات بين الجانبين إلى أن وصلت في عام 1996 إلى مستوى التحالف الإستراتيجي, عندما وقعتا على اتفاقيات عسكرية وأمنية للتعاون الإستراتيجي بينهما. اليوم, وتحديدا بعد الاعتداء الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية وإراقة الدم التركي على متن سفينة «مرمرة» في عرض البحر المتوسط تبدو الأمور مختلفة, فالظروف تغيرت, والأولويات تبدلت, وبات كل طرف يحدد مصالحه وخياراته ودوره واحتياجاته الأمنية في ضوء هذه الظروف والمتغيرات, على شكل مراجعة شاملة لعلاقاتهما في دلالة قوية على أن الأزمة بينهما تتعدى التكتيكي إلى الإستراتيجي. دون شك, وصول العلاقة الإسرائيلية التركية إلى هذه النقطة الحساسة من الصدام في عرض البحر الأبيض المتوسط لم يأت بين ليلة وضحاها, بل جاء نتيجة تراكمات كثيرة ومتغيرات سياسية داخلية وإقليمية ودولية, فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عام 2002 تشهد تركيا تحولات سياسية على شكل إعادة النظر في أولويات هذه السياسة, كان من أبرز معالمها الحد من حضور البعد الأمريكي الإسرائيلي في السياسة الخارجية التركية مقابل توجه هذه السياسة إلى إعادة الاعتبار لعلاقاتها مع الدول العربية وكذلك مجمل الجوار الجغرافي, وقد حظي هذا التحول بدعم شعبي قوي شكل زادا قويا لإستراتيجية حزب العدالة والتنمية في الحكم. وعلى هذه الأرضية جاءت مواقف تركيا الإيجابية من القضايا العربية ولا سيما القضية الفلسطينية وتحديدا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة والتي وضعت العلاقات التركية الإسرائيلية على المحك, إذ لا يخفى على أحد أن الخطاب التركي شهد صعودا كبيرا في لهجته تجاه إسرائيل, تعبيرا عن نظرة تركية مغايرة لإسرائيل ورؤية جديدة للعلاقات معها وبالتالي طبيعة دورها في المنطقة, فيما إسرائيل باتت تخشى من السياسة التركية هذه وتحس في العمق بخسارة إستراتيجية غير مسبوقة, ومخاوف مستقبلية من أن تذهب السياسة التركية إلى حد تشكيل عمق إسلامي يتكون من تركيا وإيران وسوريا ويمتد إلى دول أخرى لتشكل جدارا قويا في وجهها, وسط ترقب إسرائيلي لدور المهندس التاريخي -الولاياتالمتحدة- في العلاقة بين الجانبين. ترك العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية جرحا عميقا في نفوس الأتراك وعلاقة بلادهم بإسرائيل, وما تصريحات الرئيس عبد الله غل بصعوبة إعادة العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها, وكذلك خطاب أردوغان الذي وصف فيه إسرائيل بدولة الإرهاب والقتل, مقابل وصفه حركة حماس بالمقاومة التي تدافع عن أرضها وشعبها إلا ثورة حقيقية على العلاقة مع إسرائيل, خاصة وأن أنقرة تحس بأن الاعتداء الإسرائيلي كان موجها لها بالدرجة الأولى, حيث يشهد الشارع التركي موجة غضب غير مسبوقة تجاه السياسة الإسرائيلية إلى درجة أنه حتى الأوساط العسكرية والعلمانية المعارضة التي كانت على علاقة متينة بإسرائيل بدأت تنفر من هذه العلاقة وتطالب بمعاقبة إسرائيل على سياستها. وعليه شهدت السياسة التركية عقب الاعتداء على أسطول الحرية سلسلة من الخطوات التي من شأنها إعادة النظر في العلاقات بين الجانبين بشكل جذري وتدريجي, ولعل أهمها: 1- استدعاء السفير التركي الجديد في تل أبيب واستدعاء السفير الإسرائيلي في أنقرة احتجاجا على ما جرى. 2- إعلان تركيا عن إلغاء مشاركة إسرائيل في ثلاثة مناورات مشتركة مقررة في وقت لاحق. 3- إعلان أنقرة عن الرغبة في إعادة النظر في العديد من الصفقات العسكرية الموقعة بين الجانبين, وهي صفقات تشمل طائرات دون طيار ودبابات متطورة, والتلويح بالتوجه إلى روسيا والصين كمصدر بديل عن إسرائيل, وهو أمر إن تم من شأنه إلحاق ضربة بالمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي حيث تقدر قيمة الصفقات الموقعة بأكثر من مليار دولار. 4- ربط تركيا إعادة العلاقة مع إسرائيل إلى سابق عهدها برفع إسرائيل الحصار عن قطاع غزة. 5 – مظاهرات تركية متواصلة, وأجواء غير مسبوقة من التوتر والحرب الكلامية على شكل أزمة قابلة للتصعيد, خاصة في ظل السعي التركي إلى فتح معركة قضائية مع إسرائيل في المحافل القانونية والحقوقية لقتلها مواطنين أتراك كانوا في المياه الدولية. مقابل هذا التصعيد التركي إن جازت التسمية, ثمة حرص إسرائيلي على عدم الدخول في حرب كلامية مع أنقرة, وعليه يتجنب القادة الإسرائيليون وبتوصية مباشرة من نتنياهو توجيه انتقادات علنية لتركيا أو الرد على انتقادات المسؤولين الأتراك, وكأن لسان حال إسرائيل يقول إن الأزمة الجارية بين الجانبين هي أزمة طارئة وإن العلاقات بينهما ستعود إلى سابق عهدها, باعتبار أن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر. كما أن تل أبيب تعمل من خلال واشنطن وباقي العواصمالغربية للضغط على أنقرة من أجل تعديل مواقفها الأخيرة من إسرائيل والحد من التحولات الجارية في سياستها الإقليمية, وعلى المستوى الثنائي تشعرها بقيمة الخبرة العسكرية المتطورة التي تقدم لتركيا ولا سيما في مجال طائرات بلا طيار (هيرون) والتي تتيح لتركيا قدرات عسكرية هائلة في محاربة حزب العمال الكردستاني الذي أعلن قبل أيام انتهاء الهدنة المعلنة من جانب واحد والتهديد بعمليات نوعية في العمق التركي, حيث كان لافتا الاهتمام التركي بالهجوم الأخير للحزب على موقع عسكري في لواء إسكندرون إلى درجة أن العديد من الأوساط التركية ربطت بين هذه العملية والهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية.
تحول تركيا إلى دولة إقليمية مركزية كبرى يبدو أنها لم تعد تخشى من التداعيات التي قد تؤثر عليها إذا انهارت علاقاتها مع إسرائيل خاصة بعد أن نجحت تركيا في تسوية خلافاتها مع معظم دول الجوار الجغرافي ورسخت من مسألة الديمقراطية في الداخل وحدّت من سلطة الجيش وتدخله في الحياة السياسية, ووصلت إلى مستوى دولة مصنعة للأسلحة والمعدات العسكرية, بما يعني ذلك الإحساس التركي بغياب المعادلة القديمة التي تقول بأن العلاقة الجيدة مع واشنطن تمر عبر تل أبيب ولوبيها القوي في الولاياتالمتحدة والغرب عموما. مقابل ذلك باتت ترى فوائد كبيرة في تحركها الإيجابي تجاه الدائرة الحضارية العربية والإسلامية على شكل بروز دور تركي مؤثر في منطقة جغرافية تمتد من البحر الإدرياتيكي إلى سور الصين, أي الجغرافية التاريخية المعروفة بالعثمانية. وحقيقة فإن تركيا التي تبحث عن دور قوي في الشرق الأوسط تسعى إلى صياغة جديدة لعلاقاتها مع إسرائيل, وهي هنا تستند إلى عاملين أساسيين. الأول: أن إسرائيل التي اتجهت في المرحلة السابقة على استغلال العلاقات مع الدول الإقليمية المؤثرة في المحيط العربي أي إيران وتركيا وإثيوبيا, تجد اليوم نفسها في أزمة, فإيران في عهد الثورة في الموقع المضاد, وإثيوبيا تقاتل الجوع, فيما تركيا تبحث عن دور ينافس إسرائيل على المنطقة, وتحس بأن لديها أوراقا قوية تجاه إسرائيل ليس أقلها حرمان طائرات الأخيرة الاستفادة من الأجواء التركية والتي تشكل حاجة أمنية ماسة لإسرائيل تجاه سوريا وإيران. والثاني: أن ثمة قناعة لدى أنقرة بأن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة باراك أوباما غير مرتاحة من السياسات المتطرفة لحكومة نتنياهو, وعليه تسعى إلى الاستفادة من هذا العامل الأميركي لإعادة صوغ العلاقة التركية الإسرائيلية بما يسمح كل ذلك بتحقيق تسوية مقبولة للصراع العربي الإسرائيلي خاصة بعد أن تهربت إسرائيل بشكل واضح من الوساطة التركية للسلام بين سوريا وإسرائيل, ولعل المواقف الأميركية المتوازنة من الدور التركي تؤكد صحة القناعة التركية هذه, والتي تنطلق من أن تحقيق تسوية سيؤدي إلى تعزيز النفوذ التركي في الشرق الأوسط حيث المشاريع الإقليمية المشتركة. في الواقع، على الرغم من هذه المعطيات الجديدة التي تصب في صالح تركيا فإن ثمة مخاوف تركية إزاء الأدوار التي يمكن أن تقوم بها إسرائيل تجاه تركيا, منها ما يتعلق بدور اللوبي الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة وقدرته على طرح قضية (الإبادة الأرمنية) المعروضة على جدول الكونغرس، ومنها ما يتعلق بدعم القضية الكردية حيث المخاوف التركية الدفينة من إمكانية قيام دولة كردية في المنطقة أو حتى تقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني, ومنها ما يتعلق بخسارة الخبرة العسكرية والمعلومات الأمنية الثمينة وكذلك الخبرة الإسرائيلية في مجال الري والهندسة الوراثية التي تشكل أساس مشاريع الري الضخمة التي أقامتها تركيا في جنوبي شرقي البلاد, فضلا عن أن تركيا تشكل الوجهة الأولى للسياح الإسرائيليين. من الواضح أن العلاقات الإستراتيجية التي نشأت بين تركيا وإسرائيل خلال العقود الماضية كانت نتاج مجموعة من الظروف الأمنية والسياسية لم تعد موجودة حاليا, ومع المتغيرات والتحولات الجارية من الواضح أن الجانبين لم يعد باستطاعتهما الاستمرار في هذه العلاقة كما كانت, خاصة بعد أن بدأت تفقد أهميتها وتتحول إلى شكل من أشكال الصدام, ولعل ما يساهم في انهيار هذه العلاقة أكثر فأكثر هو التراجع الكبير في نفوذ المؤسسة العسكرية التركية التي كانت تضع الإسلام في مرتبة العدو خلال الفترة الماضية لصالح حزب العدالة والتنمية صاحب الخطاب الإسلامي المعتدل والذي في ظله تشهد تركيا تحولات اجتماعية على شكل رأي عام إسلامي لم يعد يقبل بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وحصار قطاع غزة. وعليه فإن أي حكومة تركية مقبلة لا بد أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار وإلا فإنها ستخسر الانتخابات. ومن هنا يعتقد المراقبون أن العلاقات بين الجانبين ستأخذ منحى المزيد من التوتر. دون شك, توتر العلاقات التركية الإسرائيلية على هذا النحو من شأنه تصعيب مهمة السياسة الأمريكية في المنطقة, فمن المعروف أن الدولتين تشكلان قطبي السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على شكل دور وظيفي تجاه قضايا المنطقة مع اختلاف دور كل طرف وأسلوبه تبعا لخصوصيته وموقعه من السياسة الأميركية, وعليه جاء التدخل الأمريكي سريعا على خط الأزمة التركية الإسرائيلية عندما تفجرت أزمة أسطول الحرية, حيث اتصل الرئيس باراك أوباما مع أردوغان في محاولة لضبط إيقاع التوتر بين الطرفين, لتشهد بعد ذلك السياسة الأميركية مجموعة من المواقف التي من شأنها إيجاد معطيات سياسية يمكن أن تهدئ الأزمة وتدفع بالأمور نحو الحلحلة, كإعلان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن بلادها منفتحة على كافة الخيارات بما في ذلك مشاركة دولية في التحقيق في ما جرى والبحث عن مخرج لإدخال المواد إلى قطاع غزة عبر إخضاعها مسبقا للتفتيش في ميناء أسدود الإسرائيلي, وتهدف واشنطن من وراء هذه السياسة إلى الحفاظ على العلاقة بين تركيا وإسرائيل نظرا لأهميتها أمريكيا, سواء على صعيد تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط أو على صعيد الملف النووي الإيراني. إلا أنه من الواضح أن هذا المسعى بدأ يواجه صعوبات بالغة في ظل تفاقم الخلافات التركية الإسرائيلية واختلاف الأولويات, فتركيا دخلت في شراكات إستراتيجية جديدة مع بعض الدول العربية وتطمح إلى أخرى مماثلة مع إيران وتقترب أكثر فأكثر من حماس والقضية الفلسطينية, وهو مسار ترى إسرائيل أنه حول تركيا من موقع الحليف إلى (العدو) خاصة في ظل بروز رأي عام تركي إسلامي يناهض سياسات إسرائيل. في الواقع, على الرغم من أهمية العلاقات التركية الإسرائيلية تاريخيا وموقع هذه العلاقة في السياسة الأمريكية فإنه لا شيء يمنع تصورها وكأنها أضحت على فراش الموت بعد أن فقدت معظم دوافعها الأمنية واختلفت الأولويات في ظل المتغيرات والتحولات والجارية. تخلت الولاياتالمتحدةالأمريكية عن حلفاءها القدامى من حكام العرب المخلوعين، وعادت الصحف الإسرائيلية تلحّن لتركيا معزوفة شراكة المصالح، خصوصاً فيما يتعلق بالأحداث المؤسفة التي تجري حالياً في سوريا، متحيّنة جميع الفرص للاصطياد في الماء العكر، على أمل أن تكون تركيا قد فقدت الذاكرة ولم تعد تعي ما قامت به إسرائيل من إجرام بحق الأتراك المدنيين الذين كانوا على متن سفينة "مافي مرمرة" يوم 31 من ماي العام الماضي، حين قامت القوات الإسرائيلية بقتل تسعة أتراك مدنيين بدم بارد، لأنهم تجرأوا على تحدي التواطؤ الدولي ضد أطفال غزة الذين استصرخوهم لفك الحصار عن حليبهم وأدويتهم..لكن يبدو أن إسرائيل أخطأت الطريق هذه المرة أول تسريبات آلة الإعلام الصهيونية التي تسعى للإيحاء بأن الجانب التركي تخطى فترة الحداد، ادعاء أن المؤسسة الخيرية التركية التي نظمت قافلة المساعدات الخيرية المتجهة إلى غزة العام الماضي، رضخت تحت ضغوطات من "مسؤولين أتراك" وأعلنت بأن سفينة "مافي مرمرة" لن تشارك في الحملة الخيرية القادمة. هذا الإسفين هو أحد الأساليب الإسرائيلية المستهلكة التي يعاد تدويرها مراراً لضرب أكثر من عصفورين بحجر واحد؛ العصفور الأول هنا، هو الإيحاء بأن إسرائيل مطلعة على الشأن الداخلي التركي، وهذا يعني أن لها مناصرين من داخل البيت التركي ممن يوصلون لها الأخبار وممن يمررون أجنداتها السياسية بالضغط على أشخاص أو مجموعات لتمرير مشيئة إسرائيل، العصفور الثاني استثارة الشك الداخلي والفتنة بين أفراد المؤسسة التركية بالإيحاء بأن من بينهم من منح ولاءه لإسرائيل فلا يأتمن أفراد المؤسسة بعضهم البعض نتيجة استثارة الشكوك حول إخلاصهم وانتماءهم لوطنهم الذي سيبدو وكأنه يأتي في الدرجة الثانية بعد مصالح إسرائيل. الإسفين الثالث زرع بذرة الشك بين الفلسطينيين والأتراك بالإشارة إلى تغيّر في الوعود المقطوعة من قبل الأتراك، والتي مدّت المحاصرين في غزة بشحنة من الأمل بأن هناك من يستبسل من أجل إبقاء أسرهم على قيد الحياة. بعد هزّ هذا الوتر بوقت قصير، ومن أجل قياس نبض الحكومة التركية، أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بمذكرة تهنئة بمناسبة إعادة انتخابه في 12 جوان الماضي، قال له فيها " ستكون حكومتي سعيدة بالعمل مع الحكومة التركية الجديدة لإيجاد حلول لجميع المسائل العالقة بين بلدينا، آملين معاودة تعاوننا معاً واستعادة روح الصداقة التي ميزت العلاقات القائمة بين شعبينا على امتداد أجيال". محاولة بائسة على ما يبدو، لأن أردوغان ما زال على رأس الحكومة وهو الذي تجرأ ونبش قذارة إسرائيل علناً معترضاً على تغوّلها وإجرامها بحق الفلسطينيين العزّل. بعدها طفت على السطح ادعاءات بأن "نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، موشيه ياعالون، أجرى مناقشات "سرية" مع وكيل وزارة الخارجية التركية، فريدون سينيرليوغلو، من أجل التوصل إلى وثيقة مصالحة على مستوى حكومة لحكومة". وفي هذا إيحاء بأن الحكومة الإسرائيلية هي ندّ على كفّة الميزان المقابلة لكفّة الحكومة التركية التي تحظى باحترام العالمين، الأول والثالث وما بينهما.. "المناقشات السريّة" هو تعبير إعلامي اعتدنا عليه من إسرائيل لوصف فشلها في أي محاولات لأن هذا التعبير يعفيها من إراقة ماء وجهها ومن ذكر التفاصيل، وإلى أي مدى قامت بإذلال نفسها للإبقاء على سياساتها قيد الاستمرار على حساب الآخرين ومصالحهم. بعد ذلك، قال نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، داني أيالون- الذي قام بإذلال السفير التركي في إسرائيل أمام الصحفيين عندما أجلسه على مقعد منخفض- لمجموعة من الصحفيين الأتراك الذين كانوا في زيارة إلى القدس " أعتقد أن ما خسرناه عبر السنوات القليلة الماضية هي الثقة. الآن نحن بحاجة إلى التخلي عن لعبة تبادل اللوم حول سبب فقدان هذه الثقة". من المؤكد أن الثقة لم تكن البند الوحيد الذي خسرته إسرائيل عندما أثبتت أن تنمّر أفراد حكومتها لا يقتصر على قهر الشعوب بل يمتد ليطال شخصيات دولية لها ثقلها، وفي ذلك دليل على اضطراب البناء النفسي لممثليها على مستوى أعلى، أو ربما هو ليس كذلك. استمر الإعلام الإسرائيلي بالدندنة حول وجود قنوات اتصال بين الدولتين "في الخفاء" لإعادة وصل ما انقطع، رغم أن إسرائيل استمرت في محاولة استغباء أنقرة، متفادية حقيقة أن تركيا طالبت إسرائيل وبإصرار باعتذار رسمي وتعويضات لعائلات ضحايا سفينة المعونات التركية التي هوجمت من قبل القوات الإسرائيلية أثناء حملها لمساعدات غذائية وطبية من الشعب التركي لأهالي غزة المحاصرين. إن جميع محاولات إسرائيل لفتح قنوات الحوار مع تركيا من خلال البوابة الخلفية، فشلت وأدت في النهاية إلى فائض كبير من المسودات التي تشير ضمناً إلى اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عما جرى، لكن المسؤولين الإسرائيليين استمروا في تعنتهم ورفض الاعتذار المباشر للأتراك، مدعين أن تحقيقاتهم الداخلية تشير إلى أن قواتهم تصرفت من منطلق الدفاع عن النفس. في هذا السياق عارض وزير "الدفاع" الإسرائيلي أيهود باراك تقديم اعتذار على أساس أن الاعتذار يعني الاعتراف بأن قواته أخطأت، بينما ادعى هو أن ذلك غير صحيح، بينما وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان المعروف بعدم تعاطفه مع الأتراك، عارض بشكل قاطع مبدأ الاعتذار من أصله. سياسة عدم التنازل بالاعتذار هذه متأصلة في الإسرائيليين لأنهم وبكل بساطة يرون في أنفسهم شعب الله المختار، طبقة فوق جميع الأمم، شعب غير مضطر للاعتذار عن قتل من هم دونه منزلة. وبالرغم من حالة استعصاء إيجاد لغة مناسبة تفضي إلى مصالحة بين الطرفين، ورغم أن السفير التركي لم يعد إلى عمله في تل أبيب، كما توقف السياح الإسرائيليين عن زيارة المدن الساحلية التركية، إلا أن إسرائيل أبقت سفيرها "غابي ليفي" في أنقرة. مدعية أنه رغم الخلافات السياسية بين البلدين، إلا أن التبادل التجاري زاد بنسبة 25% ما بين الأعوام 2009 و2010 وارتفاع النسبة بمقدار 40% في الربع الأول من عام 2011. استمرت إسرائيل ببث سمومها عبر الصحافة الالكترونية وكأنها "المبصر الوحيد في سوق العميان" مستغبية تركيا وجاهدة في محاولة إيصال رسالة لأنقرة مفادها، بأن تركيا لن تستطيع التعامل مع جيرانها العرب دون التعكّز على إسرائيل. في تقرير كتبه آلون بن ميئير يقول فيه " تعلم تركيا بأنها لو أرادت أن تلعب دوراً قيادياً في الشرق الأوسط، وبنفس الوقت أن تؤثر في سياسات إسرائيل، لا يوجد أمامها من خيار سوى التعاون مع إسرائيل كلاعب رئيسي لحل مشكلات الصراعات العديدة، بما فيها الممتدة على طول الحدود التركية". ويضيف بن ميئير " إن تركيا تعي بأن محاولتها التعاون مع الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط فشلت". كما يدعي الكاتب بأن "هناك قلق بين الأتراك بأن العلاقات المتبادلة التي حاولوا من خلالها تقوية العلاقات مع الشعوب العربية، هي في الحقيقة غير مبنية على أي قواعد أو أسس قوية، خصوصاً في سوريا التي يبدو أن وضعها غير ثابت". ويرفع الكاتب الإسرائيلي إصبع التخويف في وجه تركيا محذراً "إذا تداعى نظام الأسد، وهذا أمر متوقع، العواقب بالنسبة لتركيا ستكون وخيمة، كما هو واضح من تدفق اللاجئين السوريين عبر الحدود. إن تركيا بحاجة إلى قوة لتعزيز الاستقرار، وهذه القوة تستطيع إسرائيل أن توفرها". هنا نقرأ بين السطور مدى وقاحة إسرائيل إذ تلوّح بأنها مركز التحكم في الشرق الأوسط، وبأنها تذكّر القيادات التركية بأن القيادات العربية دكتاتورية، متناسية أنها أسوأ مؤسسة حكم في العالم على الإطلاق، بنيت على الإرهاب والسرقة وتزوير التاريخ والمجازر وكل مفردة تقع تحت بند سوء الأخلاق. كما يحاول الكاتب التقليل من شأن العرى التاريخية والإنسانية الوثيقة بين الشعب التركي والشعوب العربية المجاورة، لكن الأسوأ من كل هذا هو رسم اللاجئين السوريين الفارين بأبدانهم وأطفالهم من القمع على أنهم خطر يهدد أمن تركيا. لكن في النهاية، تبقى إسرائيل هي التي بحاجة إلى تركيا وبحاجة لإبقاء قنوات الحوار مفتوحة معها واستمالتها للوقوف إلى جانبها لتعزيز أجندتها السياسية ضد محاولات الفلسطينيين الحصول على اعتراف من قبل الأممالمتحدة، وضد محاولات حماس لتأسيس منصة سياسية معترف بها، وضد محاولات توحيد الفصائل الفلسطينية تحت حكومة موحدة، وللتدخل في مسار الأحداث الناجمة عن الاضطرابات في سوريا، ولكبح طموحات إيران النووية. بالنسبة لإسرائيل من الأسهل لها معالجة هذه الأمور من خلال وساطة تركيا وخصوصاً أن التقارير تشير إلى زيادة في عدد الحوارات التي جرت بين الرئيس الأمريكي أوباما ورئيس الوزراء التركي أردوغان مؤخراً، مما يعني أن الولاياتالمتحدة تعلم جيداً مدى أهمية الدور التركي، وتعلم ضرورة تزويد تركيا بالأدوات اللازمة للقيادة في المنطقة من أجل خدمة مصالحهم المشتركة، على أمل استغلال دور تركيا كوسيط إقليمي ذا صوت مؤثر معتدل ومحترم في العالم الإسلامي.