بقلم: عبد الحليم قنديل بدا المشير عبد الفتاح السيسي حزينا مهموما، وهو يلقي آخر خطاب بزيه العسكري، بدا الرجل معانيا كأنه يخلع جلده، فقد عاش عمره بزي الجندية، ومن رتبة الملازم إلى رتبة المشير، وأحب حياة الانضباط والالتزام والإنجاز، ودخل في تاريخ العسكرية المصرية كواحد من أفضل قادتها، وحقق لجيشه العظيم قفزة كبرى في زمن قياسي، وصعد به من المرتبة الرابعة عشرة إلى المرتبة الثالثة عشرة عالميا في عام واحد، بينما المصريون يدعونه بغالبيتهم إلى مهمة أخرى أعقد وأصعب بما لا يقاس، يدعونه إلى موقع رئاسة بلد مثقل بأوجاعه منهك بأوضاعه، يدعونه إلى ترك قيادة جيش متقدم جدا في الترتيب العالمي، وإلى استلام قيادة بلد يأتى دائما في الترتيب المتأخر المخجل، وغالبا بعد المئة وعشرات فوقها في الاقتصاد والإدارة والتنمية البشرية. حزن الرجل وهمه دليل جدية وإخلاص وإيمان، فقد ظل مترددا لشهور في قبول دعوة الناس إلى الترشح للرئاسة، وحين حسم أمره أخيرا، فقد استخار الله، ودرس كل شيء عن هذا البلد خارج الجيش، وعرف أن المهمة أصعب مما تصور، وأننا لسنا بصدد بلد فيه مشكلات، بل بصدد بلد تحول إلى معضلة، فقد تحلل جهاز الدولة الإداري، وانحطت كفاءته، وتفشى الفساد في عاليه وأسفله، وتهاوت إنتاجية الاقتصاد، وتحول غالب ناسه إلى أكلة (هياكل الفراخ)، وكان أكثر ما آلمه أن (احنا بلد مش لاقية تاكل) بنص تعبيره الحزين في لقاء مغلق، ونعتمد على تسول الهبات والمساعدات الأجنبية، ونحتاج إلى عشرة أمثال دخلنا القومي الآن، إن كنا نريد العيش بكرامة. بدت المهمة للرجل صعبة ومعجزة، وتكاد تكون مستحيلة التحقق، ومع ذلك استخار الله، واستفتى قلبه، وشحذ عقله وإرادته، وقبل المهمة بروح الجندية الوطنية الصافية، فليس في الأمر سباق إلى وظيفة، وقد تقلد الرجل أعلى الوظائف، وحاز أعلى الرتب، وليس في الأمر سباق إلى مجد شخصي، ولا إلى شعبية يبتغيها، حاز في قلوب الناس مجدا لم يبلغه عسكري محترف من قبله، وحصل على شعبية لم توهب لأحد منذ زمن جمال عبد الناصر، وكان بوسعه أن يبقى في موقعه الذي لا ينازعه عليه أحد، وأن يحتفظ بمجده وشعبيته، وأن يظل في جيشه الملتزم بتقاليده وعقيدته الوطنية، وانضباطه الصارم، وقد راودته نفسه على ما يبدو أن يفعل، وكان يضيق جدا بكل من يذكر له حكاية الترشح للرئاسة، لكنه انتهى أخيرا إلى قبول المهمة، وعلى غير ما رغبت نفسه في البدء، وحسم أمره قبل أسابيع طويلة من تقديم استقالته وزيرا للدفاع، حسم أمره بروح الجندي الذي يؤمر فيطيع، ويلتزم بالأوامر حتى لو كرهتها نفسه، فقد كان أمر الشعب ظاهرا ملحا عاليا مدويا، ولا يملك هو كجندي أن يدير ظهره، ولا أن يصم أذنيه عن صوت الشعب، وهو يعرف كعسكري محترف أن الشعب المصري هو القائد الأعلى لقواته المسلحة، وأنه ليس بوسع القائد العام أن يعصي أو يعقب على أمر القائد الأعلى، وقد صدع السيسي لأمر الشعب في 30 يونيو، صدع لأمر عشرات الملايين في دراما الخروج الجماهيري الأعظم، وكان لابد أن يصدع لأمر عشرات الملايين التي دعته إلى الحرب الأخرى، فالدستور لا يشترط سوى تزكية خمسة وعشرين ألف مواطن لتقدم شخص إلى سباق الرئاسة، بينما حصل السيسي على تزكية عشرين مليونا ذهبوا إلى صناديق استفتاء الدستور، لم يدع الناس السيسي إلى سلطة، فلديه السلطة الكافية، لكنهم يدعونه إلى حرب هي أم الحروب بامتياز، اسم الحرب ببساطة (إعادة بناء مصر) بنص كلمات السيسي في خطابه الأخير بالزي العسكري. نعم، اسم الحرب (إعادة بناء مصر)، وربما من تحت نقطة الصفر، وعلى طريقة إعادة بناء الجيش المصري بعد الهزيمة الكاسحة في 1967، كانت إعادة بناء الجيش هي حرب عبد الناصر الأخيرة، التي صدع فيها لأمر ملايين 9 و10 يونيو الرافضة لتنحيه، وأنجزها بالتمام والكمال قبل أن يلقى ربه، ومن دون أن يشهد عبور جيشه العظيم واقتحامه لخط بارليف، ثم جرت خيانات السياسة لانتصارات السلاح في حرب 1973، كانت خيانات السياسة فاتحة لعصر الانهيار العظيم، فقد كانت مصر تمضي في (الطريق السليم) حتى وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، وبنص تعبيرات السيسي في لقاء مغلق، كانت _الخمسينيات_ و_الستينيات_ من القرن العشرين هي عصر النهوض المصري، وتواصل الاندفاع الإيجابي حتى حرب 1973، وبعد الحرب بدأ (الانكسار) بنص تعبير السيسي، ثم تضاعفت معدلات الانهيار في الثلاثين سنة الأخيرة، و(وقعت البلد في الثلاثين سنة الأخيرة) بنص أقواله، والكلام صريح لا يحتاج إلى ترجمة ولا إلى تأويل، فالسيسي من مدرسة الوطنية المصرية التي ظل اسم عبد الناصر علما عليها، ولا يبدو أنه متحمس لما جرى أيام الرئيس السادات، وبالذات بعد حرب 1973، بينما إدانته قاطعة صريحة نهائية لحكم مبارك المديد البليد الراكد، الذي أورث مصر مذلتها الراهنة، وهبط بها من مكانة التنافس مع كوريا الجنوبية في معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجي حتى حرب 1973، وانتهى بها إلى التنافس مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي بعد أربعين سنة، انتهت بنا إلى انحطاط تاريخي طويل الأمد، وقعت به مصر من (قعر القفة)، وخرجت من سباق العصر، وانتهت إلى تجريف شامل لركائز الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والسياسة والثقافة، وتحولت مصر إلى (عزبة) و(خرابة) ينعق فيها بوم الفساد والإرهاب، وإلى أن آفاق الشعب المصري من غيبوبته الثقيلة بثورة 25 يناير 2011 وموجتها الأعظم في 30 يونيو 2013، صحا الشعب المصري ليجد بلده، وقد تحولت إلى ركام وحطام، يحتاج إلى رفع أنقاضه، وإلى (إعادة بناء مصر) من أول وجديد، وعلى قواعد الاستقلال الوطني والعلم والديمقراطية والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية. وقد يكون تركيز السيسي على مستقبل مصر في محله تماما، فليس المطلوب أن ننشغل بصراعات الماضي، ولا بمعارك (طواحين الهواء) فيه، فالمرء يحتاج إلى أن يفهم ماضيه، وحتى لا يكتب عليه أن يعيش خطاياه مجددا، وكذلك الأمم، فهي لا تكرر تواريخها، ويكفي أن تفهم مغزاها، وأن تتجنب مواضع الزلل التي خبرتها بالتجربة، وأن تلجأ للقطيعة مع أزمنة الانحطاط. والقطيعة مع زمن انحطاطها هو جوهر المهمة التي تنتظر مصر الآن، التي تقاس إليها جدارة أي شخص يتحمل مهام الرئاسة، وتبدو نظرة السيسي صحيحة عموما في ما نعتقد، تبدو قراءته للتاريخ في محلها، فهو يلتقط ما هو جوهري، ويدرك أن ظل عبد الناصر حاضر في مشروع النهوض وإعادة البناء مجددا، ومن دون رغبة في تكرار تطبيقات الخمسينيات والستينيات بالضرورة، فقد تغيرت الظروف، وتغيرت الوسائل، وزادت العلل، وتعقدت الأزمات، ولو عاد عبد الناصر نفسه، فسوف يفعل شيئا مختلفا، ومع الارتباط بجوهر القيم التي تطورت في مدار مدرسة الوطنية المصرية، ومع التسليم بوجود (إيحاء عبد الناصر) في حالة السيسي، وبالذات في تفهم دواعا ظاهرة السيسي كحالة شعبية، مع وجود الإيحاء ظاهرا في الوجدان والصور واللافتات، فإن أحدا لا يطلب منه أن يدير عجلة الزمن إلى الوراء، فلم يعد بناء حزب دولة على طريقة الاتحاد الاشتراكي مما تقبله طبائع اللحظة الديمقراطية، ولم يعد الاعتماد على جهاز دولة تحلل وفسد مما يفيد، والمطلوب: إعادة بناء شاملة في (دولة ديمقراطية حديثة) بنص تعهد السيسي، وهو ما يعني ضرورة صوغ معادلة توازن جديدة بين الدولة والمجتمع، بين الأمن والحرية، بين التشغيل والعدالة، وبين التخطيط الشامل وقواعد السوق الحرة، فليست القصة في وجود برامج أو اقتراحات فنية، وهي موجودة وبكثرة، و(على قفا من يشيل)، لكن الناس يتعاملون معها كمجرد كلام، وقد لا يدعوهم إلى ثقة، وبقدر ما تتوافر عناصر الثقة مع سبق الأفعال للأقوال، ونتصور أن السيسي بعد خلع زيه العسكري ليس في حاجة لمهرجانات المنافقين والانتهازيين و(المصلحجية)، ولا في حاجة إلى صور تعلق له في كل مكان، ويحسن الرجل فعلا لو طلب إزالة الصور كلها، ولو نفض يده من فلول مبارك الذي يحمله مسؤولية هوان مصر ومذلتها، فهؤلاء يتسابقون كأسراب الذباب إلى حملته، وهم (طبقات وسخ) تلوث صورته المضيئة، وربما تكون معركته الأولى في ما نأمل أن يسحق الذباب بالمنفضة.