كانت تجلس في المقعد الخلفي من الحافلة، وكانت تراقب ابنها وهو يتصرف بشكل طائش مع الركاب، ولكنها كانت تكتفي، ودون أن تتحرك من مكانها، بأن تقول له معاتبة "بركا.. بركا". كانت قد صعدت وعثرت على مكان في آخر الحافلة، وكان ابنها، صاحب العاشرة من العمر، إلى جانبها قبل أن ينفلت منها ويبدأ عبثا ولهوا لا نهاية له. راح الطفل ينتقل بين الركاب فيسخر من شكل هذا ومن ملابس ذاك وتصرفات وحركات آخر، ولم يكتف بذلك فحسب، بل راح يمازح الجميع، او هذا ما بدا له، وهو يتناول حقيبة فتاة ثمّ يلوح بها في أرجاء الحافلة ويهدد برميها من النافذة، ولم تنفع لا توسلات تلك الفتاة ولا تهديداتها له في ردعه، بل كان يقهقه ويفرح كلما زاد غضبها، أمّا أمّه فكانت تشاهد ما يفعله وليس على لسانها سوى: "بركا.. بركا". وبعدما ملّ الطفل من الفتاة اتجه إلى شيخ طاعن في السن، راح يسخر من شكله ومنظره المتواضع، ثمّ أخذ منه هو الآخر نظارته وجربها على نفسه، ثمّ راح يهرج وينظر إلى باقي الركاب ويلفت انتباههم، أمّا الشيخ فلم يستطع فعل شيء أمام تلك الوقاحة اللامتناهية، وأمّا الأم فراحت تبتسم لابنها كما لو كانت تشجعه على تلك التصرفات، ثم تقول له بلهجة عتاب لا أمر:" بركا.. بركا". وتجاوز الطفل حدوده عندما راح يتلفظ بكلمات بذيئة وبصوت عال، وهو الأمر الذي جعل المسافرين يُحرجون ويطلبون من الأم أن تضع له حدا، لكنها وعوض أن تخجل من نفسها ومن تربيتها السيئة تلك، قالت بكل وقاحة أنّ الطفل لا يزال صغيرا، ولا يمكن أن نلومه على ذلك، وأنه سيهدأ عندما يكبر! ولم يزل الابن في طيشه وشغبه إلى أن مرّ براكب شاب كان مع زوجته، فاتجه إليهما وتلفظ أمامهما بكلام قبيح مشين أحرجه أمام زوجته والمسافرين، فما كان من الشاب إلاّ أن ضربه ضربا مبرحا، فراح الطفل يبكي ويصرخ ويستنجد بأمه التي لم تبق هذه المرّة مكتوفة الأيدي، بل قامت من مكانها واتجهت إلى الشاب وراحت توبخه وتعنفه بكلام جارح، على أساس أنّ ابنها صغير ولا يصحّ ضربه. فعلا لقد بلغ بعض أبنائنا درجة من الوقاحة لا نهاية لها، ولكن لا يقع اللوم عليهم، بقدر ما يقع على أولياء أمورهم، والذين يسمحون لهم بالاعتداء والسخرية من الغير، بل لا يأبهون حتى لذلك، فلا يعنفونهم إن اخطئوا ولا يشجعونهم إن أصابوا، فيكبر الطفل بذلك وهو لا يفرق بين ما يصح وما لا يصح. وتجد هؤلاء الأولياء يتعللون لأبنائهم بالصغر، لكن لن تتحسن الأمور حينها بل تسوء، وعوض أن يرتكب هؤلاء الأطفال أخطاء صغيرة سيرتكبون أخطاء كبيرة، وعندما يكبر لن "يعقال" ولكن سيزداد جهلا على جهل، وسيكون المتضرر الأوّل حينها الأولياء الذين سيتحملون المسؤولية كاملة.