هل اليهود أحرص على مشاعر الجزائريين من عيسى؟! يبدو أن وزير الشؤون الدينية والأوقاف محمد عيسى مصرّ على تحدّي مشاعر قرابة الأربعين مليون جزائري، من خلال دفاعه المستميت عن قراره القاضي بإعادة فتح معابد اليهود في الجزائر، على الرغم من الرّفض الشعبي الواسع لهكذا قرار، وعلى الرغم من أن تلك المعابد أقيمت في الزمن الاستعماري ولم تكن موجودة قبل الفتح الإسلامي، وعلى الرغم ممّا يفعله اليهود الغاصبون بفلسطين. كان من المؤسف كثيرا أن يعود الوزير عيسى للحديث عن قضية فتح معابد اليهود في الجزائر بكثير من التعنّت، بشكل يشير إلى أن القرار (لا رجعة فيه)، والقضية تبدو قضية وقت فقط، حيث أن ما يمنع من فتح تلك المعابد حاليا هو مشاعر الغضب التي صنعها العدوان الصهيوني على قطاع غزّة بين الجزائريين، والغريب في الأمر أن من أخذ تلك المشاعر بعين الاعتبار ليس وزيرنا للشؤون الدينية، بل ممثّل الجالية اليهودية في الجزار الذي لم نسمع بوجده من قبل وذلك بشهادة الوزير عيسى نفسه الذي قال إن ممثّل يهود الجزائر طلب منه في لقاء جمعه به مؤخّرا عدم فتح المعابد مخافة تعرّضها للتخريب من طرف الجزائريين انتقاما ممّا يفعله الطيران الحربي الصهيوني في قطاع غزّة، الأمر الذي جعل يهود الجزائر الذي لا نعرف عددهم بالضبط يخافون الانتقام والتعرّض للتهديدات. قضية وقت فقط! توحي هذه التصريحات (الاستفزازية) بأن تنفيذ قرار فتح معابد لليهود في الجزائر مؤجّل فقط ولم يتمّ التخلّي عنه ريثما يتوقّف الصهاينة عن عدوانهم على غزّة وتهدأ نفوس الجزائريين وينسى عيسى وممثّل اليهود في الجزائر أو يتناسيان أن مشاعر الجزائريين ثابتة نحو اليهود، وهم يعتبرون إخوانهم في فلسطين عرضة لعدوان صهيوني دائم طالما الاحتلال مازال قائما، وهو ما يعني أن اعتراض غالبية الجزائريين على فتح معابد اليهود ليس اعتراضا مؤقّتا، بل هي ممانعة مستمرّة في ظلّ استمرار الظلم اليهودي الواقع في الأرض الفلسطينية المحتلّة. ومعلوم أن قرار وزارة الشؤون الدينية القاضي بإعادة فتح المعابد اليهودية التي أغلقت في التسعينيات بسبب الأزمة الأمنية قد أثار جدلا كبيرا ولقي انتقادات واسعة، خاصّة وأنه تزامن مع شهر رمضان والعدوان الصهيوني على غزّة. وكانت الحكومة قد أقرّت في مارس عام 2006 قانونا لتنظيم ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين المقدّر عددهم -حسب الوزارة- بعشرة آلاف شخص. وينصّ القانون على منع الدعوة لاعتناق دين غير الإسلام، كما يمنع ممارسة أيّ ديانة أخرى خارج المباني المخصّصة لها قبل الحصول على ترخيص. من هم يهود الجزائر؟ بينما لا تملك وزارة الشؤون الدينية إحصائيات دقيقة عن عدد اليهود في الجزائر، يقول المؤرّخ اليهودي إييم سعدون إن عدد يهود الجزائر قبل الاستقلال كان في حدود 130 ألفا، حصل معظمهم على الجنسية الفرنسية بموجب مرسوم (كريميو) بتاريخ 24 أكتوبر 1870. سعدون أورد هذا الرّقم في كتابه (الجالية اليهودية في الجزائر) الصادر في 2012، ضمن مشروع تقوم به الحكومة الصهيونية للحديث عن أوضاع الجاليات اليهودية في الدول العربية. وزعم سعدون أن عدد المعابد اليهودية المتواجدة في الجزائر يقدّر ب 25، موزّعة على عدّة مناطق من البلاد. ومن أهمّ الولايات التي كانت تتواجد بها المعابد اليهودية المغلقة الجزائر العاصمة والبليدة وقسنطينة وتلمسان. ويقول المؤرّخ اليهودي: تتكوّن الجالية اليهودية في الجزائر من فئتين رئيسيتين هما: الفئة الأولى: من ذوي التاريخ القديم، وقد توالوا على البلاد منذ ما قبل الميلاد إلى ما يعتبرها (فترة المطاردات المسيحية الإسبانية لليهود) في القرنين 14 و15 ميلادي، وهذه الفئة تدعى (توشافيم) بالعبرية، أي الأهالي بالعربية، وقد انصهرت في المجتمع الجزائري، ولولا اختلاف الدين والطقوس والطبائع النفسية المكتسبة من سنين التشرّد لأصبحوا جزائريين بعمق الانصهار، ولذلك أطلق عليهم لقب (اليهود الأصليين). ويضيف المؤلف: تشمل تلك الموجات اليهودية بعض يهود الجزيرة العربية بعد الفتح الإسلامي من بني قريظة وبني النضير الذين أجلاهم الرسول الكريم محمد عليه الصلاة السلام، وبعض يهود بني الدريد الهلاليين الذين قدِموا إلى الجنوب التونسي أثناء الهجرة الهلالية الكبيرة من المشرق إلى المغرب خلال القرن العاشر الميلادي. الفئة الثانية: وتعرف باسم (الميغورشيم) بالعبرية، وتعني المطرودين، من يهود إسبانيا، عندما بدأت دويلات الأندلس بالتساقط في سنوات 1391، 1462 و1608، وعرفوا ب (الكبوسين) نسبة إلى الكبوسة الحمراء التي يضعونها على رؤوسهم، وبفضل تكوينهم الديني المتفوّق على الفئة الأولى وإمكانياتهم العددية والثقافية العلمية النابعة من البيئة الأندلسية فقد استحوذوا على المراكز الديناميكية للجالية اليهودية. ويعود المؤرّخ اليهودي للحديث عن الأصول التاريخية ليهود الجزائر بالقول إنه قديم جدّا، مقدّرا أن أوّل دفعة منهم وصلت شمال إفريقيا مع مجيء الفينيقيين الذين أسسوا مدينة قرطاج، أواسط القرن الثامن قبل الميلاد، وبعد الفتح الإسلامي، أطلق على الطوائف اليهودية التي لم تدخل الإسلام تسمية (الذميين)، ويضيف: منذ عام 1165 أقرّت سياسة التحويل القسري كان من نتيجته تحريم الزّواج عليهم من المسلمين ومنعهم من ممارسة التجارة على نطاق واسع، لذا كان عليهم إمّا ممارستها سرّا وبصورة غير قانونية أو اللّجوء إلى المنفى في مصر كما فعل الفيلسوف الطبيب التلمودي الميموني، أو فلسطين أو إيطاليا، إضافة إلى ذلك فرض على يهود الجزائر ارتداء ملابس خاصّة من اللّون الأصفر في عام 1198 أيّام حكم (الموحّدي) المنصور، وهذا الميل لتمييز اليهود بلون أو علامة فارقة، تفاوت حسب البلدان والعصور، أعيد العمل بها في أوروبا في القرون الوسطى. وأورد المؤرّخ جملة من الإحصائيات الرّقمية المتعلّقة بيهود الجزائر، لأن ربع اليهود الذين هاجروا من الدول العربية نحو ما يسمّى بإسرائيل جاءوا من الجزائر والمغرب، إضافة إلى 135 ألف من العراق و120 ألف من إيران و103 آلاف من تونس و55 ألفا من اليمن وعشرين ألفا من سوريا وخمسة آلاف من لبنان. فتوى تحرّم فتح معابد اليهود في الجزائر ما لا شكّ فيه أن كره الجزائر لليهود لم يأت من فراغ، فله أسبابه التي يمكن أن نحصرها في سببين على الأقل، الأوّل: انحياز يهود الجزائر إلى صفّ فرنسا الاستعمارية وتحوّلهم إلى عملاء وحركى لباريس، ثمّ رحيلهم مع المستوطنين والجنود الفرنسيين مباشرة بعد نجاح الثورة المباركة في إجبار فرنسا على الرّحيل من الجزائر، والثاني: الاحتلال الصهيوني لفلسطين وما يفعله اليهود بأشقّائنا في الأراضي المحتلّة. لذلك لم يكن غريبا أن يثير قرار محمد عيسى أو من دفع عيسى إلى الإعلان عن ذلك القرار بفتح معابد اليهود غضب ملايين الجزائريين، وهو الغضب الذي تعزّز ب (فتوى) تحرّم تنفيذ القرار، حيث أكّد رئيس جبهة الصحوة الحرّة الإسلامية السلفية (حزب غير معتمد) عبد الفتّاح رزاوي حمداش أن قرار الوزير مسّ مشاعر أربعين مليون مسلم جزائري خلال شهر رمضان وسط عدوان همجي على غزّة، مضيفا: (بيننا وبينك مرجعية الإمام مالك، فهو لا يجيز بناء المعابد لليهود أو الكنائس للنصارى في بلاد المسلمين). وأشار حمداش إلى أن هذا القرار أسعد اليهود في العالم واعتبروه نصرا تاريخيا لهم، (بينما نحن نعتبرهم أعداء محاربين للإسلام، وحاربوا خلال الثورة الجزائرية مع فرنسا وغادروا معها بعد الاستقلال). ويرى حمداش أنه لا يستقيم شرعا إعادة فتح المعابد اليهودية التي بنيت خلال حقبة الاستعمار الفرنسي. من جهته، رأى رئيس حزب جبهة العدالة والتنمية الإسلامي عبد اللّه جاب اللّه أن السلطة تسرّعت في اتّخاذ هذا القرار، لأنه لا توجد مبرّرات له، فلا أحد طالب بإعادة فتح المعابد، على حدّ قوله. أمّا عدة فلاّحي المستشار الإعلامي السابق لوزير الشؤون الدينية، فنُقل عنه قوله إن هذا القرار يتعارض مع قناعات الوزير الشخصية، لكنه فُرض عليه من جهات عليا في الدولة. ورغم ذلك يرى فلاّحي أن القرار قانوني لأنه منسجم مع قانون تنظيم الشعائر الدينية في الجزائر، وذكّر بأن الجزائر اعتمدت ممثّلية للديانة اليهودية قبل التسعينيات ترأسها روجي سعيد، وهو محام من محافظة البليدة القريبة من العاصمة، غادر إلى فرنسا سنة 1993 بسبب الأوضاع الأمنية. وفي تقدير فلاّحي فإن انفتاح تونس وليبيا وقبل ذلك المغرب على الطائفة اليهودية جعل من الجزائر الاستثناء ضمن هذا الفضاء المغاربي، لذلك تريد من خلال القرار التخلّص من ورقة قد تستعمل ضدها.