بقلم: بودرع ياسر لو تناولنا نتائج العدوان الأخير على غزة بمنطق الربح والخسارة المتعارف عليه لقلنا أن الفلسطينيين قد خسروا الكثير من الأرواح بعد هذا العدد الكبير من الشهداء مقارنة بعدد من قتلتهم المقاومة من الإسرائيليين، نفس الشيء ينطبق على الجانب المادي فالخسائر كبيرة من الجانب الفلسطيني بعد استهداف جيش الاحتلال للبنية التحتية والمنازل فألحقت أضرارا جسيمة بها، لكننا لو تناولنا نتائج هذا العدوان بعمق أكبر لوجدنا الخسائر الإسرائيلية أكبر مما يتصور كثيرون وأن الكيان الصهيوني المحتل يتجه نحو دفع ثمن باهض نتيجة هذا العدوان. قرر الكيان الصهيوني أن يكون كل عدوان يشنه على الفلسطينيين أشد قسوة وإجراما عما سبق وهو ما نلمسه في عدوانه الأخير على قطاع غزة، أمر حرك كل عواصم العالم ومدنها هذه المرة وجعلها تنتفض ضد الجرائم الإسرائيلية حيث خرجت مظاهرات في مختلف المدن الأمريكية في نيويورك وواشنطن وشيكاغو وفيلاديلفيا وبوسطن.. وشملت المظاهرات أيضا مختلف مدن دول العالم في إيطاليا وألمانيا واليونان والنرويج وهولندا وفرنسا وكندا والجزائر وتركيا والهند وإندونيسيا.. وكتبت لافتة كبيرة في شوارع إيرلندا (اخرج من إيرلندا أيها السفير الإسرائيلي، مجرمو الحرب غير مرحب بهم هنا)، وفي لندن وقف أكثر من 50 ألف محتج على مذابح إسرائيل خارج سفارة الكيان الصهيوني وأعلنت متاجر (تيسكو) البريطانية عن مقاطعتها منتجات إسرائيلية، ولم تتوقف المظاهرات حتى وصلت إلى ما يسميها الصهاينة (تل أبيب)، حيث طالب المتظاهرون ب(وقف الحرب والاحتلال)!! ردود الفعل الدولية هذه ضد العدوان الصهيوني على غزة أثبتت أنه ليس شرطا أن تكون عربيا أو مسلما حتى تقف إلى جانب المظلومين هناك بل يكفي أن تكون إنسانا حتى تفعل ذلك. لم تقتصر فقط ردود الفعل المنددة بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على احتجاجات المواطنين والناشطين الحقوقيين والمنظمات غير الحكومية في مختلف مناطق العالم وتعدتها إلى السياسيين والجهات الرسمية في دول كثيرة والمنظمات الدولية الحكومية، أعلنت تركيا أن العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة سبب رئيسي وكافي لعدم عودة علاقاتها مع إسرائيل، أما الأرجنتين فقد أسقطت رئيستهم الجنسية عن متطوعين يهود أرجنتينين في الجيش الإسرائيلي حسب ما نقلته بعض الصحف، ومن جانبها أعلنت المالديف مقاطعة إسرائيل مقاطعة اقتصادية تامة ونددت رئيسة البرازيل بوحشية العدوان الإسرائيلي على غزة وسارت على نهجها أغلب دول أمريكا اللاتينية التي طردت سفراء الكيان المحتل من أراضيها وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها، بينما أعلنت شخصيات بارزة في الأممالمتحدة أن إسرائيل هي من تستخدم أطفال غزة دروعاً بشرية، وتخضعهم للتعذيب! في ميدان الإعلام تدور معارك من نوع آخر ساحتها الشبكة العنكبوتية وأدواتها مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة التي مكنت ملايين الناس حول العالم من الاطلاع على ما يحدث في غزة واكتشاف حقيقة ما يجري هناك من خلال الصور والفيديوهات التي تصل إليهم بسرعة بعيدا عن الإعلام الموجه الذي يغطي الحقائق برعاية (سي أن أن، فوكس نيوز، بي بي سي..)، مئات الشهداء الفلسطينيين يوميا أغلبهم أطفال ارتقوا شهداء عند ربهم يرزقون بعضهم أفراد أسرة واحدة وآلاف الجرحى في مشاهد صادمة ومروعة شوهت صورة الإنسانية، وهو ما جعل الصهاينة عاجزين عن الرد فصور لجرائم مثل هذه لا يمكن تبريرها للرأي العام العالمي رغم محاولاتهم التعيسة التي لم تزدهم سوى حرجا خاصة بعد دخول ناشطين وصحفيين غربيين لهم وزنهم على خط هذه المعركة الإعلامية ونشرهم بعضا من تلك الصور والمشاهد والحقائق التي وثقوها بأنفسهم ووصلت إلى عدد كبير من الناس، في تويتر مثلا تم نشر وسم عالمي لفضح جرائم إسرائيل عرف انتشارا هائلا في أوساط مستخدمي تويتر حول العالم فجاءت ردود فعلهم ضد الهمجية الإسرائيلية وانتقدوا من خلالها العدوان على غزة، واصفين قصف مدرسة تابعة للأمم المتحدة بالمجزرة مجمعين أنه لو كان المعتدي غير (إسرائيل) لتدخل العالم! والأمثلة كثيرة جدا حول انتصار الرأي العام العالمي لغزة وفلسطين والإسرائيليون أنفسهم أقروا بهزيمتهم الأخلاقية وهذا ما أكدته (أميرة هاس)، حين كتبت مقالا في صحيفة (هاريتس) بعنوان (هزيمتنا الأخلاقية ستلاحقنا سنوات طويلة) وتساءلت الكاتبة عن مكمن النصر إذا كان الضحايا هم أطفال ونساء بعضهن حوامل! وتساءلت أيضا هل يمكن اعتبار إبادة عائلات بأكملها في خلال أيام قليلة نصرا! ولعل أبرز ضربة توضح الخسارة الكبيرة ل(إسرائيل) في الحرب الإعلامية ما ذهبت إليه (نيويورك ميدل إست)، حين خلصت إلى نتيجة مفادها أن حماس لم تخطف الجنود الإسرائيليين الثلاثة ونفت أن تكون حماس قد قتلتهم وبهذا يبطل السبب الذي دفعته إسرائيل لتبرر هجمتها البربرية على غزة وشعبها الأعزل. إن خسائر إسرائيل لا تقف عند هذا الحد الذي ذكرته فتكلفة عمليتها العسكرية على قطاع غزة كبيرة جدا خاصة مع القدرة التي أظهرتها المقاومة الفلسطينية على الصمود وردها بأساليب مختلفة، ولهذا آثار وأعباء ثقيلة على جيش الكيان الصهيوني فصاروخ واحد يساوي عشرات الآلاف من الدولارات وتمتد خسائر الكيان المحتل إلى الاقتصاد وقطاع السياحة في المقدمة بخسارة قدرت بمئات ملايين الدولارات، بينما نجد وجها آخر من أوجه تلك الخسارة في الأعداد الكبيرة لليهود الذين يغادرون إسرائيل سنويا في هجرة عكسية نحو أوروبا وأمريكا ما يعمق من المشكل الديموغرافي الذي يعانيه الكيان المحتل أصلا، وتأتي هذه الهجرة نتيجة عدم الاستقرار الذي يعتبر الكيان الصهيوني سببه الرئيسي بعدوانه المستمر على الفلسطينيين وسياساته الاستيطانية وتعنته في مفاوضات السلام.. هكذا تبدو الفاتورة التي تدفها إسرائيل من وراء عدوانها على غزة مرتفعة جدا خاصة في شقها المتعلق بالثمن الدولي والدبلوماسي، لكن أكبر ما خسرته في رأيي هو فشلها المستمر في رهان إزالة ثقافة المقاومة من عقول الفلسطينيين لأن الاحتضان الشعبي للمقاومة يزداد ويصير أقوى بعد كل عدوان إسرائيلي، وهذه الاعتداءات المتكررة والمستمرة هي دافع كافٍ لبروز أجيال جديدة مقاومة للاحتلال الغاشم وناقمة عليه. قد يقول عني البعض إني أجانب المنطق إذا قلت أن المقاومة الفلسطينية هي الفائزة في مواجهتها العدوان الإسرائيلي لكني سأقول ذلك دون تردد، لأن دفاعها عن القضية الفلسطينية العادلة وثباتها على مواقفها هو في حد ذاته إنجاز وانتصار بغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية فنحن نتكلم عن شعب محاصر يقاوم احتلالا يملك واحدا من أقوى الجيوش في العالم، ورغم ذلك كبدته المقاومة خسائر كبيرة جعلت من الصهاينة يخوضون سباقا مع الزمن خلال الساعات القليلة الماضية في محاولة لإيجاد مخرج سياسي عبر وسطاء دوليين يخرجونهم من الورطة التي وقعوا فيها وهذا هو سبب تحرك الدبلوماسية الأمريكية ممثلة في رأس هرمها جون كيري.