في خطابه أمام قضاة الجمهورية في افتتاح السنة القضائية، بدا القاضي الأوّل في البلاد رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة واقعيا للغاية وتحدّث بطريقة تشبه طريقة أقرب إلى أحاديث المحامين منها إلى أحاديث القضاة· فالرئيس اعترف بوجود الفساد وبوجوب محاربته، مؤكّدا أن سيف الحجّاج لا ينبغي أن يخلد للرّاحة قبل القضاء على المفسدين، لكنه أقرّ من جانب آخر بوجود عوامل مساعدة على انتشار الفساد، منها وأبرزها الفقر· قد لا يكون الفقر مبرّرا للفساد ولا لغيره من الآفات والآثام لكنه يضع الفاسد الفقير في دائرة ما يُعرف في لغة أهل القانون بالظروف المخفّفة، ولا شكّ في أن الرئيس لا يريد أن يترك للفاسدين والمفسدين أيّ تبريرات أو أقنعة يمارسون باسمها فسادهم وإفسادهم، لذلك أكّد أن محاربة الفساد تقتضي الحدّ من الفقر، دون أن يعني ذلك أن المدمنين على الفساد جميعهم من الفقراء، وأن الأثرياء خارج دائرة الشبهات· الرئيس يسعى إلى توفير أجواء اللاّ فساد لذلك حرص منذ سنوات على زيادة أجور القضاة مثلا، فهو يدرك أن القاضي الذي يعاني وضعا ماليا صعبا من السّهل رشوته، والقاضي الذي لا يتمتّع بوضع اجتماعي جيّد من غير الصّعب إغراقه في بحر الفساد· ومن خلال تحسين وضعية القضاة ماليا واجتماعيا تكون السلطات قد وضعت يدها على منبع الفساد القضائي، تماما مثلما وضعت يدها على منبع الفساد في قطاع التعليم العالي مثلا من خلال رفع أجور أساتذة الجامعات والباحثين وطالبتهم في المقابل برفع المستوى وترقية البحث في القطاع والرقي بالجامعة الجزائرية إلى مراكز أفضل من التي تحتلّها حاليا· ومن خلال مثل هذه الإجراءات، يبدو الرئيس واعيا للغاية بكون القوانين وحدها لا تكفي للحدّ من تنامي طاعون الفساد، فإلى جانب الآليات القانونية الصارمة جاءت الإجراءات الرّامية إلى تحسين أوضاع الجزائريين على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم لتؤكّد وجود إرادة حقيقية في وقف زحف ذلك الطاعون المرعب الذي أهدر جزءا كبيرا من ثروة البلاد في منافع شخصية للمفسدين وضيّع على الجزائر فرصا لا تُحصى للخروج من قائمة البلدان السائرة في نهج التخلّف، وهي قائمة لا نتمنّى أن يكون البقاء فيها قدرنا إلى الأبد·